يشهد الإنتاج الأدبي السعودي ظاهرة الأعمال الـ“فضائحية” المكتوبة بأقلام نسائية. فهل تندرج ضمنها رواية «الآخرون» الصادرة في بيروت عن «دار الساقي»؟ هل هي تجربة أدبية فعلية، أم «صرعة» جديدة تفتعل الجرأة لتحقيق الرواج؟
حسين بن حمزة

رواية “بنات الرياض” لرجاء الصانع أثارت ضجة لدى صدورها في بيروت، وأراقت حبراً كثيراً. وجاءت رواية “الآخرون” لكاتبة سعودية أخرى اسمها صبا الحرز عن الناشر نفسه (“دار الساقي”) لتعيد تسليط الضوء على هذه الظاهرة: شابات سعوديات في مقتبل الكتابة يلجن عالم الرواية من حيث لا يتوقّعهن أحد. وكان النجاح من نصيب “بنات الرياض”، ومثلها “الآخرون” . هل هذا نجاح روائي أو إقبال من قرّاء فضوليين على اسرار المجتمع السعودي الذي يغري، بسبب انغلاقه وخصوصيته الاجتماعية والسياسية والدينية، بمفاجآت وفضائح؟ هل نحن أمام ظاهرة روائية أو فضيحة اجتماعية؟
مهما كان من أمر، ثمة عوامل أخرى غير أدبية، ولا علاقة لها بالكتابة نفسها ربّما، تتحكّم في الإقبال على مثل هذه الروايات. وهذه العوامل من شأنها أن تؤجّل أو تمنع التفكير في مسألة الكتابة، ومدى تحقّقها روائياً، لمصلحة عوامل أخرى تحيط بهذه الكتابة من دون أن تكون جزءاً مكوّناً لها.
إن نجاح “بنات الرياض” لم يقم على “روائية” العمل نفسه، بقدر ما قام على ما أشاعه العنوان لدى قارئ غير متطلّب لا يفكر الروائيون ــ عادةً ــ في مخاطبته واستمالته. إنّه قارئ لا يميل في الأساس إلى التعقيدات الأسلوبية الموجودة عادة في الأدب، بل يفضّل عليها الخفة والتسلية... إضافة إلى الاستيهامات والتخيّلات التي ترافق سرداً يعد بالكشف عن عوالم الفتيات السعوديات: كيف يعشن وكيف يفكرن وما هي تفاصيل علاقاتهن العاطفية والزوجية. إنه مجتمع مغلق لا بد من أن يخلق عند القارئ فضولاً وحشرية لمعرفة تفاصيله. بل إن هذه التخيلات المسبقة نجحت في نقل العدوى إلى أفراد لا يقرأون عادة. هكذا فإن معاينة دقيقة لعدد من قرأوا “بنات الرياض” ونوعيتهم ستكشف لنا أن نجاح الرواية بطبعاتها المتعددة ــ خلال أشهر قليلة فقط ــ لم يكن روائياً خالصاً، بل تدخّلت فيه أسباب مختلفة معظمها لا علاقة له بعالم الكتابة أصلاً.
أما رواية “الآخرون”، فتجربة أخرى، ليست في خفّة “بنات الرياض” وسطحيّتها. وإذا دخلها قارئ ما بدافع “البصبصة”، فهو سيبقى فيها مشدوداً بالمتعة الأدبية الصرفة. لكن ذلك، لن يحميها من نجاح “زائف” كالذي كان من نصيب سابقتها. الكاتبة سعودية أيضاً، وتتحدث روايتها عن عالم سعودي أكثر سرية وإثارة للفضول. إن الصفة الأولى التي ستلتصق بهذه الرواية هي أن بطلتها تروي تجربتها السحاقية مع أكثر من فتاة قبل أن تنتهي بعلاقة حب طبيعية مع شاب كان بجوارها دوماً. ليس هذا فقط، فالرواية تتحدث عن سحاق منتشر ومتفش، لا عن تجارب عابرة ونادرة وشديدة الفردية والسرية. وهناك فصل كامل عن تفاصيل عاطفية وجسدية بين فتيات يقررن قضاء إجازة “مثليّة” في مزرعة خاصة، بما هو أشبه بحفلة جنس جماعي. إن إطلاق صفة “سحاقية” على هذه الرواية سيكفل لها رواجاً هائلاً. فهي صفة فعالة وسريعة التأثير وقادرة على جذب ذلك النوع من قراء التسلية والفضيحة أو قراءٍ مستجدين ستورّطهم تخيلاتهم عن السحاق (وأين؟ في السعودية؟) في الإقبال على قراءتها. ستتوالى طبعات “الآخرون” على الأرجح، لكن قلة من القراء سيلبّون دعوة الكاتبة إلى التوغل عميقاً في وقائع الرواية التي تكاد تكون سيرة ذاتية مقنعة، تستحق قراءة أكثر تمهلاً. والأرجح أن هذا الأمر وراء سبب تنكّر الكاتبة (الكاتب؟) خلف اسم مستعار!
وإذا علمنا أن بطلة الرواية فتاة شيعية تتحدث عن القمع الذي يتعرّض له الشيعة في السعودية، فإن ذلك سيزيد من حشرية شريحة أخرى من القراء. ولن ينفع حينئذ القول إن الرواية ذات بنية سردية أكثر تعقيداً وثراءً وتنوّعاً من الكليشيهات والأفكار المسبقة عن “رواية سعودية مثليّة”... علماً بأن الكتابة هنا، تحاول الغوص في المياه العميقة للسحاق، ولا تبقى على ضفافه الضحلة والموحلة. لذا فإن القارئ المتعجّل الباحث عن إثارة رخيصة لن يجدها حتماً.
وإن بطلة الرواية تتحدث عن دراستها الجامعية، وعن إسهاماتها في أنشطة الحسينية، وعن نوبات الصرع، وإبحاراتها في الإنترنت، وعن موت أخيها المبكر، وعن كتّابها المفضّلين (إشارات ذكية وحساسة، من روايات وأفلام). إنها مادة جديرة بقراءة أدبية،. لكن كون الكاتبة سعودية، وعملها يغوص في المحظورات، قد يسيء الى التجربة الأدبية وطريقة تلقّيها، وستحجب عن القارئ طعماً آخر لهذه الرواية.
هل رواية “الآخرون” مهمة، بينما موضوعها الجنسي والسياسي يحجب أهميتها؟ كلا طبعاً. كل ما في الأمر أن موضوع الرواية، وحشرية القراء، يهدّدان بنجاح مبالغ فيه. تعطي “صبا الحرز” حضوراً لواقع شائك وسجالي ومثير، عن طريق الكتابة، أي من خلال اللغة وإيقاعها ومراجعها، تصوّر الأحاسيس وترصد المشاعر الحميمة، فتعطي أعماقاً وأحشاءً لحوادث وعوالم، عوملت غالباً بكثير من السطحية والخفة. وهنا يكمن إنجازها الأدبي، وجرأتها ككاتبة. حين تتقاطع الموهبة والثقافة والجرأة في نص واحد، نكون أمام تجربة أدبية حقيقية تستحق كل الاهتمام.