خيارات جوليا بطرس
عبد الغني طليس

ليست قصة شجاعة، بل خيار سياسي أولاً وأخيراً...
عندما وقفت المغنية جوليا بطرس وسط المتظاهرين الغاضبين في وسط بيروت، بعد ارتكاب إسرئيل مجزرة قانا الثانية، كانت واعية تماماً للخطوة الجريئة التي تقدم عليها. قالت ما لا يستطيع قوله أغلب الفنانين الذين يفضّلون في حالات كهذه، الستر والسكينة، ويتحدّثون فقط عن «العموميات» الإنسانية. أعلنت أنها تقبّل أقدام المقاومين، وتمنّت أن تصيب عدوى الشرف والكرامة أولئك الجالسين على «الكراسي» العربية. كانت جوليا المغنية العربية الوحيدة التي تعلن موقفاً لا يتعاطف مع المقاومة فحسب، بل يحثّ الحكام العرب على التحرك بدل الاختباء، والتجاوب مع لبنان...
عادةً، لا يتجرّأ فنان عربي على انتقاد الأنظمة العربية. يخشى أن يكتب اسمه على اللائحة السوداء المستبعدة من أي نشاط فنّي يُقام في البلد المقصود. جوليا، أساساً، لا تقيم حفلات كثيرة في البلاد العربية، فضلاً عن أن أغانيها ليست «شعبية» بالمقاييس المتعارف عليها في «سوق» الأغاني العربية. أغانيها المنتشرة في كل شارع عربي، تحمل مستوى فنياً ينطلق من الاستجابة الثقافية للفن لا من الاستجابة «الراقصة» له، وهذا ما يعطي مسيرتها وقعاً مختلفاً، أكثر نظافة وغنى وعمقاً. الفنانة اللبنانية حافظت في مشوارها الذي بدأ منذ عشرين سنة، على خط غنائي ملتزم عبر أسلوب خاص يبتعد من الابتذال كلاماً ولحناً. فنانون كثيرون انتفضوا. نجوم مصريون أعربوا عن تأييدهم للمقاومة. أما فنانو لبنان فاكتفوا برفض حرب اسرائيل على لبنان، ولم يعلنوا أي موقف سياسي مؤيد للمقاومة أو معارض لها. جوليا كانت الوحيدة التي جاهرت بتعاطفها مع المقاومة، بين الناس وأمام شاشات الفضائيات. نسيت مشاريعها الفنية. لم تعد تهتم بالتسويق لألبومها «تعودنا عليك... حبيبي» الذي طُرح قبيل أيام من اندلاع الحرب. ولم تغادر مع زوجها إلى دبي حيث يعمل مديراً في إحدى الجامعات، بل نظّمت في بيروت حملة تبرّعات شعبية بالتنسيق مع جمعية الصداقة اللبنانية الإماراتية. أما زملاؤها اللبنانيون فلبّوا دعوات الشاشات العربية، وأطلقوا نداءات ملحّة لمساعدة شعب لبنان، معتبرين أن ذلك يغنيهم عن الموقف السياسي.
عرفت جوليا أن رأيها الصريح ضد سكوت الأنظمة العربية قد يسبّب لها إحراجاً في هذا البلد أو ذاك، ومع ذلك لم تتراجع. هل في ذلك مجازفة؟ ربما هي مجازفة للفنان الذي يفضّل البقاء على الهامش. إلا أن جوليا، ألغت في تلك اللحظة، ما يمكن أن يترتّب على الموقف من نتائج سلبية، واستسلمت لذاكرتها السياسية ووعيها الوطني.
شيء من التفاني في كلام بطرس، فهي تجاهلت الأمور الثانوية، وآثرت مواجهة الأنظمة العربية التي تبيع الفنانين وتشتري حفلاتهم وإنتاجاتهم وقناعاتهم وصورهم وكلامهم، وبعضهم يقول كراماتهم!