علي زراقط
“إليك أينما تكون” برهان علوية طال غيابك! منذ سنوات واللبنانيون ينتظرون فيلمك “خلص” الذي كنت تريد تسميته “الحرامي”، ثم “من هنا مرّ الحب” إلى أن استقررت على هذا العنوان المثير للجدل. بالطبع، لا يمكن أن يكون هذا الاختيار وليد مصادفة لدى مخرج يتقن استخدام الدلالات في أفلامه.
هذه الكلمات تراود المرء، يشعر برغبة في أن يكتبها على بطاقة بريدية، أو يضمّنها في رسالة فيديو، ويبعث بها إلى صاحب “بيروت اللقاء” أحد أبرز سينمائيي جيل سبعينيات القرن العشرين في لبنان. يخطر بالبال، وبيروت تحت القصف، إجراء تحقيق في دهاليز المدينة بحثاً عن فيلمه ــ اللغز الذي لم ير النور حتى الساعة، مع أنّه يعمل عليه منذ سنوات، متخبّطاً في مصاعب جمة.
في مشروعه المؤجّل يعبر برهان علوية زمن السلم الموقت في عام 2000، ليتوغّل في مكان يحتضن تراكمات الماضي، وينغلق على أهله جاعلاً المغادرة من رابع المستحيلات. في هذا المكان الكثيف يضيع بطل علويّة، ونضيع نحن في رحلة البحث عن الزمن المفقود... إنها المدينة المحاصرة التي كرّس لها أحد أجمل أفلامه: “بيروت ــ اللقاء”. يتناول الفيلم قصة مغترب عاد الى بلده ولم يجد شيئاً مما كان يشكّل ذاكرته. هنا “المدينة تكرّر حماقاتها وأخطاء الماضي”، كما يقول علوية. هذه المدينة التي رآها المخرج اللبناني في فيلمه منذرةً بالموت، لم تعد قادرة على تحمّل تاريخها، تهرب منه لتصطدم به عند أول مفترق.
عند هذه النقطة، حيث يتقاطع الزمن المفقود مع المكان المحاصر، يغرس علوية أساسات السيناريو. فيلم “خلص” الذي ما زال ينتظر مراحل الإنتاج النهائية، يغوص في العلاقات التي نشأت زمن الحرب، ويتساءل كيف لها أن تستمر في زمن السلم؟ إنّه حكاية “الانتقال من مرحلة القناعات الكبرى إلى مرحلة الشكوك الكبرى” كما يردد علوية.
مع تقدّم التحقيق، علمنا بأن التصوير انتهى والمونتاج بعده... فالميكساج العسير. لكنّ الفيلم ما زال ينتظر مرحلة طباعة النسخ وتوزيعها. كان من المفترض أن يُتعاقد مع مؤسسة “كفالات” لطباعته وتحميضه، لكن المشروع تأجّل بسبب الحرب. ويبدو أن حال فيلمه تشبه حال “البلد المقطّع الأوصال” كما يقول المخرج ويكمل: “الفيلم موجود لكن أحداً لا يستطيع مشاهدته، تماماً مثل الخلل الموجود في البلد ولا أحد يراه”.
هذا الإحساس بالفقدان ينتاب المرء في عزّ القصف وهو يهيم على وجهه في الشوارع الخالية. افتقاد السينما التي تحكي عن الحرب، كما أجاد علوية صياغتها. أين السينما؟ “مشكلة السينما ليست مادية، فهي لا تنفصل عن المجتمع الممزق والمهزوز. مجتمعنا مبني على علاقات متخلّفة، وضد الحداثة. المشكلة أنه لا مكان للحرية والكل مهزوم...”. هذه النظرة الى السينما التي تضعها في مكانها الاجتماعي كـ“إحدى أهم مقومات الحداثة”، تجعلنا ننتظر فيلم برهان. فالناس، كما يقول، “تنقصهم الصورة”! ونحن ينقصنا فيلم برهان علوية الجديد...