علي نصارعلى رغم كل المتغيرات خلال عقود الصراع مع اسرائيل، ظلّ الأدباء العرب ممانعين لأي نوع من انواع التطبيع الثقافي. اما القلة التي تجرأت على ملامسة الموضوع، ولو مواربة، فنُبذت واضمحلّت. عدا أنّها كانت تأتي من مواقع هامشية أو مصطنعة. ولم تفلح اتفاقية كامب دايفيد ولا المساعدات الأميركية، وما تبعها من غزو ثقافي، في التأثير بطبيعة الأدب المصري: بقي الإسرائيلي عدوّاً "شديد التميّز” في كل الكتابات المصرية التي تناولت الموضوع. وفي حين أن مجرد ذكر الأدب الإسرائيلي، لا مفر من أن يترافق ــ لدى بعض الكتاب والنقاد العرب ــ مع لغة هجومية، أو تبريرية واضحة، تغصّ السوق بعشرات الأعمال الأدبية التي ليس فيها ما يستحق الاهتمام سوى نبرتها الثورية في مواجهة العدو. وما زالت الانتقادات تلاحق نجيب محفوظ، بسبب ايجابية خجولة ابداها تجاه عملية السلام، وما زال بعضهم يشكّك في خلفية نيله جائزة نوبل، ويعزو قرار اللجنة المانحة الى موقفه الايجابي من كامب دايفيد.وعندما انطلقت الرهانات السياسية والاقتصادية على سلام مفترض، بعد مؤتمر مدريد، لم يتبدل الخطاب الأدبي العربي، ولم يخطُ المثقفون أي خطوة باتجاه التطبيع. بل شهدت تلك المرحلة خطاباً تصعيدياً تعبوياً، يدعو الى مواجهة الخطر الثقافي الآتي مع “سلام” مزعوم يفتقر الى أية أسس واقعية. وجاءت معاهدة اوسلو القصيرة العمر، فلم تنعكس على كتابات الشاعر محمود درويش مثلاً، علماً أنّه يُعدّ مقرباً من “منظمة التحرير” أحد طرفي المعاهدة. ولم يبدّل اتفاق وادي عربة مواقف أدباء الأردن و قناعاتهم... لذا نستطيع القول، ان جبهة الأدباء كانت أقوى الجبهات المفتوحة مع إسرائيل. وعلى الرغم من كل محاولات التقرب على المستويين الديبلوماسي والاقتصادي وغيرهما، ازداد الخطاب الثقافي راديكالية في ممانعته، مع كل تنازل جديد في الموقف الرسمي...
لكن هناك مفارقة نقع عليها في لبنان، بدأت ملامحها تتبلور بعد تحقيق اول إنجاز حقيقي ضد العدو منذ دهور! منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي عام 2000، بدأت حدّة العداء تخفت في نصوص بعض أدباء لبنان، ثم تحوّل جزء كبير من “طاقة العداء”، عند هؤلاء الى “الوصيّ السوري”. ومع العدوان الجديد، لم يتورّع بعضهم من دخول النقاش من باب التشكيك، بما يقدّم مبررات غير مباشرة للجيش الإسرائيلي في اعتدائه السافر على لبنان. وهناك من تندّر بالكلام عن المشهد الجديد الذي “سطّره” القصف الأنيق لمباني الفقراء... ما يضعنا امام سؤال مفاجئ وغريب، إنما شديد الواقعية: هل ما نشهده اليوم هو أولى بوادر التأسيس لمرحلة جديدة في “التطبيع الثقافي” مع إسرائيل؟ وهل نشهد اختراقاً اسرائيلياً على جبهة التطبيع الثقافي، بعدما حقّق العرب ــ للمرة الأولى ــ صموداً عسكرياً فعلياً بوجه الغزاة... في حين فشلت كل محاولات توريط الثقافة في ظل اتفاقات السلام؟ ربما، فلبنان بلد المفارقات، والعجائب.