أنسي الحاج
أحلى ما في الكََرَم ليس العطاء، بل كونه مُفسداً يتخفّى في مظاهر النبل.

مشهد الطريدة أجمل في كل حين من مشهد الصيّاد، لأنّ تَخيُّل البراءة التي ستُغدر يعكس إمّا رغبةً فينا وإمّا توقّعاً وإمّا ذكرى.

خيال الطفل ابن ذاكرته السابقة لولادته.

لا تُسمّ ما تكره حتى لا يصغر نطاق الكراهية. ليبق ذلك في الصدر، حيث شهوة الانتقام مملوكة، والقتل موصول بالبعث فالقتل، ودم الضغينة يتدفّق وسط حراسة يؤمّنها مصدر متفهّم مجهول.

الإغراء اثنان: واحد لاستمالة معشوق وآخر لإرضاء جمهور. الأول حلاله في حرامه والآخر حرامه في حلاله.

لو قبلتَ لنفسك مصير ضحاياك لما غُلبتَ، الّلهم الا بما لا يُردّ، فيفوز عندئذ دون أن يَقهر.

كل ما في الطبيعة أقوى مما يفعله الانسان، الا الدموع.
حمم البركان تحرق الأبرياء، السيول تغرقهم، الأعاصير تشرّدهم، الدموع تنجّيهم من الطوفان.

فدائي يستشهد في وقت السلم يصبح نجماً. مئات في زمن الحرب لا نتذكّر أسماءهم ولو أحرزوا النصر. السلم يدلّل قتلاه.

التلفزيون لم يحسس الجميع بمآسي البعض بل أسهم في التتفيه. عمّم الفة الكوارث وصور الأطفال المقطّعين، جلّد الشعور. كانت الكلمة المكتوبة، قبل عهد التلفزيون، تصنع للحدث، بل وللحادث الفردي دوائر وأصداء تتفاعل متضخمة في النفس والمخيلة وأحياناً أبعد كثيراً مما رمى اليه الكاتب. كانت تحرك الضمير، تصنع الضمائر.
التلفزيون أنزل الملاحم إلى مستوى الصحن اليومي. صادر التاريخ، وبدعوى الأمانة التامة الشاملة له صوتاً وصورة وحركة، ذبحه من الشرق إلى الغرب.

بعد الهنود الحمر وجدت أميركا عدوّها في المحتل البريطاني، وبعده من بعضها البعض جنوباً ـ وشمالاً، ثم من المحور الألماني - الياباني - الإيطالي، فمن الشيوعية، والآن من الراديكالية الإسلامية. جدلت أميركا عضلاتها وتجدلها على مقارعة العدو. لا تستطيع أن تستغني عنه. بعد الإسلام ربما الشرق الاقصى. لن يعدَم عدواً من يحتاجه.
العرب لم «يحتاجوا» اسرائيل. غُدروا بعداوة لا تشتاق اليها نفوسهم. لذلك لم تستطع هذه العداوة المستوردة أن تستولد فيهم الطاقات التي تستولدها في العادة حروب العداوات «المحبوبة». على العكس، أخّرت تقدمهم وصادرت قواهم. أحبطتهم سياسياً وعسكرياً وروحياً. لا يتشابه هذان العدوان، فكيف لهما أن يتعاديا العداء الخلّاق؟
لهذا كانت منظمات المقاومة هي الشكل الأمثل في هذا الوضع . عدو «غير ملائم» ينشأ في وجهه مقاوم «غير متوقع». داود أصبح جوليات وجوليات أصبح داود.

ليست السهولة ما ينشّز في هذه الأزمنة الحديثة، بل بقايا الصعوبة. بقايا صعوبة تقاوم «الحصول».
أنا واحد ممن أبدوا هذه المقاومة. كنت على خطأ. حلم السعادة هو العيش في سهولة. حشرجات الصعوبة «هي» النشاز.
إنه الماضي يقاوم. ماض معقّد وغيور لا يريد أن يصدّق أن الحياة يمكن أن تكون حليفاً. ليت الأجيال الجديدة تؤتى نعمة تقدير هذه السهولة وضرورة التمييز بينها وبين الضحالة. السهولة المنشودة هي تدفّق العطاء أخذاً وردّاً بين الفرد والحياة، مع كل التجدد الذي يتكفل به الخيال، الخيال الضامن للمفاجأة أن لا يلغيها أو يضعفها التدفق.
سهولة تُحل تلاحق الدهشة محل صعوبة لم تعد تصمد أمام انفجار التاريخ.

أن تكون شديد التأثر ولا تنسى ما قبل... لا يقتلعك ذاك ولا يعرقلك هذا.

هل تعني العبقرية أن لا يكون العبقري بشريّاً؟ هل تعني البطولة أن لا يكون البطل ضعيفاً؟ عباقرة فوق البشر أو أبطال أشدّاء، نموذجان راسخان في الذهن وربما في الواقع. عرفتُ بطلاً كان أحياناً يبكي، وعرفت عبقرياً لا يميزه شيء عن قادة الكميونات وطبّاخي المطاعم. الأول كانت الشجاعة القصوى احتياطياً في نفسه، استعمل منها القراريط المألوفة في اليوميات وترك أقصاها في جيوبه الخلفية. وعندما استشهد فوجئ الأقربون لأنهم كانوا يحسبونه أكثر حيلة من أن «يقع». كانت عاطفيته تحتمل الالتباس، لكن شجاعته ظلت تواصل استهلاكها الذاتي بلا مساومة. بطل في مستوى البشر.
الآخر، العبقري، نُظر إليه «وَرْباً». التمتّع بأعماله والتحفّظ في إبداء الإعجاب. تواضعه كان يوهم بأنه «ليس هو نفسه» مؤلف تلك الأعمال الباهرة. شكله «اليومي»، خصاله «البشرية» وبساطته، أنزلت حجاباً بينه وبين إشعاعه. لم يُسمع دويّه إلا بعد الموت. نسج له الموت ما تحتاجه المخيلة الجائعة من أساطير.
البطولة كانت هناك تحت هباء الحياة اليومية السخيفة، والعبقرية هنا في رداء البساطة القروية. إنهما الأقرب إلى القلب. بطولة فوق البشر؟ لمن؟ لا أحد يحتاج بطولة تسحقه بل بطولات تعطيه أملاً. والعبقرية هي بالطبع شيء خارق، وكم يتضاعف جمالها حين يكون صاحبها وجهاً ضائعاً بين الوجوه!

ما يضايق في بعض الكتابات والمواقف الشعور بأنها لم تكلّف صاحبها شيئاً.

الحب من أشكال النوم. جزء منه، الجزء المتآكل، هو الأقلّ نوماً. المحبوب المُتعِس هو ذاك الصابب على ذلك النوم باردَ الماء.
شريكة الحب المثلى هي من تُعمّق خَدَر مخدّاته، فيغوص رأسك كمغارة تغتسل بشلّالها...