عودة الى «دوار الشمس»، المكان الذي اتّخذه روجيه عسّاف ورفاقه جيباً من جيوب المقاومة الثقافية، ليفتحوا «فجوة» افتراضية في الحصار الإعلامي. هنا كتب المسرحي رسائله من زمن الحرب، هذا الزمن الخصب بالأحلام الوطنية والمسرحيّة.هل كان روجيه عسّاف يتصوّر، وهو يهبط للمرة الأولى درجات قاعة سينما غير مكتملة في الطيونة، أنّ المكان سيتحوّل بعد عامين من تلك الزيارة الى جيب أساسي من جيوب المقاومة الثقافية، خلال شهر تموز 2006 الدموي الذي شهد أفظع عدوان على لبنان؟... يومذاك كان المسرحي اللبناني يبحث عن مكان لتحقيق حلمه بتأسيس مسرح يحتضن مشاريعه وإنجازاته خلال نصف قرن من العطاء في المسرح العربي، بعد أن ضاق “مسرح بيروت” به وبرفاقه في مجموعة “شمس” عصام بو خالد وحنان الحاج علي وعبده نوار وبرناديت حديب والآخرين.
كافح روجبه، أشهراً طويلة لتأمين الإمكانات المادية والتقنية الكفيلة بتحويل الصالة التي أوقف اندلاع الحرب الأهلية بناءها، وبقيت مهجورة عند خطوط التماس كل تلك السنوات. ولم يكتمل الموسم الأول لمسرح “دوار الشمس” الجديد، حتى أعطته الأحداث المتسارعة هويته، فاستكمل ملامحه في لحظة المعركة... كأنه قدر روجيه عساف، وطريقته المثلى لأداء رسالته، دائماً بين الفن والمجتمع، بين الخشبة والجمهور الذي يريده شريكاً في المعادلة الإبداعية، بل المالك الأساسي لوسائل التعبير. في تموز الماضي تغيّر وجه “دوار الشمس” في الطيونة. لم يعد يكتظّ بالفنانين والمشاهدين الشباب، وغيرهم من طلاب المسرح الذين كانوا يقصدونه كمنتدى شبابي، وبؤرة تفاعل، وفضاء للإبداع... تحوّل المكان الى خلية نحل حول جماعة “شمس”، ومعها جمعيتا “مسار” و“مدى” للعمل الشبابي، بهدف خلق جبهة ثقافية إعلامية، أو قطب للتواصل مع “الخارج”... وإيصال صوت اللبنانيين إلى مختلف ممثلي الوسط الثقافي في العالم، من خلال شبكة العلاقات الواسعة التي بناها عساف ورفاقه على امتداد مشوارهم. الشراكة مع “مسار” و”مدى” قامت أساساً على هدفين: العمل المشترك بين شباب الطوائف كافة لخلق أرضية حوار، والعمل على بناء قيم مشتركة، أخلاقياً وفكرياً، كي ينخرط الجيل الجديد في معركة المواطنة.
خلال العدوان تعقّدت الأهداف. أراد أفراد المجموعة استغلال المكان، فاتّضح أنه لا يمكن تنظيم نشاطات تقتضي جمع ناس، علماً أنها رسالة المسرح الأولى. لذا، كان الخيار خوض المعركة على نطاق “افتراضي” من خلال شبكة الانترنت. اشتغلت المجموعة على التواصل مع دائرة كبيرة من والشركاء الفاعلين حول العالم، لتوصل صوت لبنان تحت القصف وتقاوم التزوير الإعلامي الغربي بكل تجلياته... صارت رسالة “شمس” الدورية صوت الشعب المقاوم، بعيداً الخطابات الرسمية. بعد أن خرج لبنان من دوّامة العنف، عدنا إلى الطيونة، للقيام بجردة حساب...
“نحن بخير، طمئنونا عنكم”... كانت الرسائل الى المثقفين في العالم تحمل هذا العنوان. يتحدث عساف عن الفكرة التي بدأت حين استضافته إحدى الفضائيات الخليجية. يومها أراد أن يقول للعالم: “نحن بأحسن حال، لكننا خائفون عليكم. نحن نعاني ونتعذب، لكننا لسنا ضعفاء، وصحّتنا العقلية سليمة. أما أنتم، فتأكلون وتنامون وتتفرّجون على التلفزيون... لكن إلى أين أنتم ذاهبون؟ إنكم تفقدون كل يوم من إنسانيّتكم واستقلالكم”. ثم تواصلت النصوص، وهي تتميز بشعرية نادرة ممزوجة بالغضب. وتورد “ما تيسّر من الوقائع المغيّبة عمداً عن الرأي العام العالمي”. ويضيف: “لم نخفِ موقفنا الداعم للمقاومة”. ويذكر عساف أنه ورفاقه ركّزوا على ضرورة إجراء محاكمة، “ليس بالضرورة بين جدران محكمة، إنما محاكمة في وجدان البشرية”. ويتساءل: “كيف قبِِِل العالم الحرّ بالجرائم التي ارتكبتها اسرائيل في لبنان؟”. ويستدرك أخيراً أنّه ضاق ذرعاً بالتباكي، وبالخطاب الإعلامي السائد عربياً، “ذاك الذي يصوّر لبنان في موقع الضحية، ويطلب له الإحسان... نحن ركّزنا في الرسائل على الحيوية الموجودة لدى الشعب اللبناني، في عزّ الأزمة. لدينا كل ما ينبغي من الطاقة للمقاومة ولإعادة البناء”.
يؤمن عساف بأن هناك أولويات في زمن الحرب، لذا لم يتّجه إلى خيار مسرحي، إنما “اخترنا العمل مع تنظيمات لجمع مساعدات للمهجّرين”. ويؤكد عساف ابتعاد المجموعة عن نمط “سوبر ماركت الإغاثة”: “همّنا كان إشعار المهجّرين أنّهم قادرون على تنظيم حياتهم بشكل مستقل عن التسوّل”.
ماذا عن المسرح في هذه المعمعة؟ يصمت عساف قليلاً: “المسرح يتطلّب مجهوداً كبيراً مقابل مردود أقل. إن مرحلة الحرب هي عادة مرحلة مخاض، ومرحلة تجميع ذاكرة للمستقبل... واقعنا المرير قد يكون منجماً لفن المسرح في ما بعد”. ويضيف: “في القتال، لا يتعدّى دور المسرح إشعار الناس باستمرارية الحياة، “إنه وقت الصمود وإيصال المواقف الإنسانية ـ قبل النضالية والحزبية ـ للعالم أجمع”. ويرى عساف أن استمرار حالة التضامن في المجتمع اللبناني كما كانت أثناء العدوان “يكون أهم انتصار... اننا نعيد بناء وطن متماسك، على أنقاض مؤسسات فارطة. هذه فرصة لبنان، رغم فخ التفرقة الطائفية والتنازع على المصالح السياسية. هذا أحد أهم انجازات المقاومة برأيي”. ثم يضيف كمن يريد أن يتغلب على شك ساوره: “بناء الوحدة يتطلب مجهوداً ضخماً، لكننا نستطيع ان نعطيه دفقاً قوياً من خلال نشاطاتنا”. نترك “دوار الشمس”، آملين أن نعود إليه قريباً لمشاهدة عمل جديد لروجيه عسّاف، يستمد زخمه من تلك الأيام الصعبة التي عاشها مع رفاقه “صامداً” على محور الطيّونة.