بيار أبي صعب
كريستين طعمة أكثر من ناشطة ثقافية وفنية في بيروت. إنها حالة خاصة بلورتها المدينة الخارجة، متلعثمة، من الحرب الأهلية، فإذا بها عنواناً لجيل فني وثقافي جديد، تضيق به الأطر المكرّسة، والقوالب الفنية السائدة. من هنا حتماً حالة الارباك التي تثيرها غالباً مؤسّسة جمعية “أشكال ألوان” لدى بعض المعنيين بالصحافة الثقافية: كيف يكمن تقديمها والتعريف بها، من خارج اللغة الجاهزة؟ المرأة التي أعلن عن اسمها بين الفائزين هذا العام بإحدى جوائز “مؤسسة الأمير كلاوس” في أمستردام، حار أهل القبيلة (الثقافية) طويلاً في كيفية تصنيفها واستيعاب نشاطها: مديرة “مهرجان”؟ صاحبة جمعية فنية؟ ناشرة؟ منظمة معارض تشكيلية؟ منتجة أفلام؟ منسقة لقاءات وندوات ومحاضرات؟ ما هذه الخلطة العجيبة التي تجسدت امرأة، وجاءت تزعزع المشهد الثقافي المستكين الى قوالبه وبطاركته ومفرداته ومعاييره الفنية منذ سبعينات القرن الماضي، بل منذ خمسيناته أحياناً؟
النقاد وجدوا أنفسهم عند نقطة فقدان التوازن وهم يحاولون التعاطي مع الأعمال التي راحت تنتجها وتوزعها في أماكن محددة من المدينة ”حديقة الصنائع” (1995)، “حديقة السيوفي” (1997)، “الكورنيش” (1999)، “شارع الحمرا” (2000)، قبل أن تلف بها العالم. فالتصنيفات الشكلية والأسلوبية القديمة لم تعد تنفع كثيراً في مقاربة نهجها الفني والثقافي. لقد ضاعت المعايير والحدود الفاصلة بين المسرح والفيديو والتشكيل، بين الكتاب والتجهيز، بين الجسد والنصّ، بين الصورة والرسمة... في معظم الأعمال التي اكتشفتها وأنتجتها واستضافتها، وقدمتها في بيروت والقاهرة وتونس وميلانو ولندنما الذي يمكن أن يجمع بين وليد رعد وجلال توفيق، ربيع مروّة ونادين توما، أكرم زعتري والثنائي جريج - حاجي توما، بلال خبير وطوني شكر وعبلة خوري وغسان سلهب ومروان رشماوي ولينا صانع ورندا شعث... فؤاد الخوري وأمل قناوي ووائل شوقي ولارا بلدي وحسن خان وشادي النشوقاتي ووليد صادق ورشا سلطي ولميا جريج... وصولاً الى شريف واكد وشريف العظمة ورائد ياسين وروي سماحة والقائمة تطول؟ إنهم خلان كريستين طعمة، رفاقها في رحلة معاكسة لتيار السائد. شركاء من آفاق فكريّة وجماليّة مختلفة، معظمهم ينتمي إلى جيل ما بعد الحرب، أو لديه القدرة على الانتماء إلى حالة شبابيّة من خارج التصنيفات.
التقطت كريستين طعمة ارهاصات خاصة تعتمل بها المدينة، حساسية جيل يبحث عن نفسه في عالم متغير، جيل طالع من جحيم حرب لم يفهم لماذا اندلعت وكيف انتهت... أفسحت حيّزاً كبيراً للتجهيز، وراهنت على الفنون البصرية والفنون الحيّة عند لحظة تشابكها وتقاطعها في ما بينها، تقاطع “الآن” والـ “هنا”. الآن بعد أحد عشر عاماً من العمل، يبدو الأمر بديهياً، والأسماء التي احتضنتها معروفة، والأعمال التي أطلقتها مقبولة أحياناً. لكن الأمر لم يكن دائماً كذلك. كان لا بد من انتظار تظاهرة “أشغال داخلية” في طبعاتها الثلاث، واقبال كوكبة من الأسماء العربية والعالمية البارزة على مشاريعها، كي يعترف حراس الزمن الميت بوجود كريستين طعمة.
لكن كريستين المسافرة الى لندن لاستكمال تكوينها الأكاديمية، لم تعتد تنتظر اعتراف أحد. لقد ربحت معاركها بالفطرة، وصارت كاهنة “الفن المعاصر” في بيروت وسائر المشرق.