في مجموعته «تفسير الرّخام» (المركز الثقافي العربي)، يواصل بسّام حجّار تجربته الخاصة التي تضعه على حدة بين رفاق جيله. إنّه شاعر الخفوت والعزلة والفقدان، يربّي الكلمات فتصبح ملكه، ممهورة بمزاجه وهواجسه.حسين بن حمزة

صدور مجموعة جديدة للشاعر بسّام حجّار هو، بطريقة ما، حدث شعري. فالقارئ غالباً ما يضرب لنفسه موعداً مع جديد هذا الشاعر، وينتظر أن يجد شعراً حقيقياً ذا نبرة شديدة الخصوصية. والواقع أن هذا الوعد تحقق في معظم ما كتبه هذا الشاعر صاحب العبارة الخافتة الذي يضع كل كلمة، وكل استعارة، في حيّزها النصّي اللائق بها داخل جملته التي تربّت، أساساً، في كنف الخفوت والعزلة والوحشة والألم والفقد... وصارت، بهذه الصفات، علامة ملازمة لشعر بسام حجار.
ما إن يُذكر أو يُقرأ حتى ترد إلى ذهن قارئه تلك التأويلات الفاخرة والمستمرة لعالم صغير، وادع، موحش وحميم، يقتصر على أشخاص قليلين ومتاعهم القليل، على منزل وغرفه وممراته وأثاثه.
أشخاص بعضهم غابوا وظلّت مقتنياتهم وأغراضهم وذكرياتهم وروائحهم في الزوايا والخزائن والأدراج، وبعضهم ما زال يواصل حياته بما هو أشبه باستعداد للغياب. إنها حياة قليلة تلك التي تدور في معظم شعر بسام حجار، ويمكنها أحياناً أن تقتصر على شخص واحد هو الشاعر نفسه أو على شخص يفكر الشاعر فيه، أو يفكر أن يفكر فيه.
اللغة جلد
في مجموعته الجديدة “تفسير الرخام” (المركز الثقافي العربي ـ 2006) لا ينكث بسام حجار بوعده للقارئ. في قصائدها الثلاث “لم يقل لي أحد ما معنى الأسى”، و“مزار بجنب الطريق”، و“تفسير الرخام”، يواصل صاحب “مهن القسوة” (1993) و“فقط لو يدكِ” (1990) افتتانه بجملته الشعرية وعالمه الشعري الحميم. قيل مرةً: إن اللغة جلد. بسام حجار هو واحد من أولئك الشعراء الذين يليق بهم هذا الــــقول، الشعــــراء الذين يربّون الكــــلمات فــــتصبح، بمعـــنى ما، ملكاً لهم أو ممهورة بأمزجتهم وهواجسهم.
الموت حاضر في قصائد المجموعة. إنه موضوعها الوحيد تقريباً. وهذا لا يفاجئ القارئ فقد سبق لبسام حجار أن كتب أكثر من مرة عن موتى أعزاء (عن الأب والأخت خصوصاً). لكن الموضوع لا يحجب عن القارئ المادة الحقيقية للقصائد.
الموت حاضر بقوة، هذا صحيح. لكن الاكتفاء بهذا المعطى الذي يكاد يكون بديهياً، قد يظلم الشعر الذي كتب به هذا الموت. القصائد ليست مراثي تقليدية أو غير تقليدية. إنها أكثر من ذلك بكثيرفي القصيدتين الأولى والثانية، يكتب حجار عن موت حدث وانتهى. ويستبق في الثالثة موتاً يحدث برويّة وبطء. في الأولى مقبرة حيث: “يخلد المقيمون ههنا إلى نوم مبكر”. وفي الثانية مزار يقام عادة في المكان الذي شهد وفاة الشخص ( الأخت مجدداً)، حيث: “لا تسمى القبور/ ولو مأهولة بالموتى /... قبوراً”، وحيث “لا تسمى المواكب إليها جنازات / بل أسفاراً”، وحيث: “لا تسمى أضرحة / فلا من يرقد فيها”.
الموت في هذا الشعر، إذا شئنا وصفه، موت مستعاد ومعاش لكثرة ما هو مستعاد.
الموتى أنفسهم، لفرط ما هم مفتقدون، يعودون إلى زيارة أماكنهم واستعمال أشيائهم. يستحضر الشاعر في القصيدة الثالثة أطيافهم في مقطع مؤثر يلخص جانباً من فن بسام حجار الشخصي في ابتداع كتابة الموت، متخيلاً أنهم في تجوالهم المنزلي كسروا إناء أو مزهرية: “لا تجمع الكِسرة إلى الكِسرة / لكي تقول بحبور القائل: / هذا إناء معافى / أو / هذه المزهرية التي حفظت روحي / لن تبرأ الكسور من حطامها / لن تبرأ الكسور من فتنة لمعانها البارد / كسوراً متناثرة على البلاط / مبعثرة / بين الخطى الرقيقة / لطيفٍ منزلي / ربما كان أختاً أو أباً”.
افتقاد مبكر
الشاعر في هذه القصيدة لا يواجه الموت، بل يصحبه ويؤنسه ويجالسه داخل منزل يطلّ منه الشاعر، في خمسين عمره، على الأعوام التي تنقضي كحافلة مسرعة، بينما الراحلون يشاطرونه حياته وعزلته وسهوه وألمه...
“تفسير الرخام” قصيدة افتقاد مبكر من الشاعر لنفسه: “لا أبالي بي / إذا متّ أمس / أو اليوم / أو اليوم الذي يلي / ولا أبالي بي / إن بقيت حياً / لأيام / لأعوام أخرى / فلم يبق لي ما أصنعه برجائي / بالشهوات التي تبقّت / لم يبق ما أصنعه بمتّسع اليوم / كل يوم”.
يفكر الشاعر أن الحجر (الرخام / القبر) هو موطنه ودارته البعيدة، وأن الحياة جعلته “متفرجاً على ميتات صغيرة”.
سطور عديدة في كتاب بسام حجار تصلح أن تكون عبارات مأثورة على قبور حقيقية. بيد أن الموت، رغم حضوره المفرط ونفوذه المضموني الواسع، لا يخفي ـ كما قلنا ـ ممارسته الشعرية الفاخرة ونبرته الآسرة.
وإذا كان الشاعر بارعاً في تقليب فكرة الموت على أكثر من وجه، فإن ذلك لا يعوقه عن أدائه الشعري الخاص. لا يمكن، بالطبع، فصل الموضوع عن كيفيات كتابته، لكن هذه الملاحظة الإجرائية تبدو ضرورية للقول بأن تجربة بسام حجار الشعرية تكتسب جدارتها من خصوصية نبرته ومزاجه وطبيعة أدائه الشعري، بصرف النظر عن الموضوع الذي يتحقق فيه هذا الأداء.


مشاغل جيل شعري هادئ جداً
منذ مجموعته الأولى “مشاغل رجل هادئ جداً” (1982)، كشف بسام حجّار عن ممارسة شعرية تعقد علاقة حميمة وشخصية مع الكلمات. كانت المجموعة أشبه، كأي كتاب أول قوي ولافت، ببيان شعري ذاتي. لكنه بيان خافت النبرة يحاول أن يجد له حيزاً ومتسعاً داخل تجربة أواخر السبعينيات الشعرية في لبنان والعالم العربي. وقد جرى لاحقاً استكمال مفردات هذا “البيان” وطبقاته، في مجموعاته الشعرية التالية، وخصوصاً في “لأروي كمن يخاف أن يرى” (1985) و“مهن القسوة” (1993).
والواقع أن النظر إلى بسام حجّار بوصفه شاعراً لبنانياً وعربياً يصنع له مكاناً أكثر دقة وملاءمة، ويخلق لشعره قرابات مع تجارب عربية أخرى. ويمكن لهذه القرابات أن تقترح تقسيماً زمنياً مختلفاً لفكرة الجيل الشعري. فإذا كان بسام حجّار مجايلاً، لبنانياً، لأنطوان أبو زيد وعبده وازن وعقل العويط... وغيرهم، فهو مجايل لشعراء مثل أمجد ناصر (الأردن)، غسان زقطان وزكريا محمد (فلسطين)، ومنذر مصري (سوريا)، وصلاح فائق (العراق)، وغيرهم. حجّار الذي يفضّل أن يكون منزوياً في اجتماعيات الثقافة، وأن تكون قصيدته مثله، يبدو أن ذلك، بالعكس، يمنحه رواجاً ذا نكهة مختلفة.