الحرب لم تنتهِ بالنسبة الى سلطان سليمان الذي رفض العودة الى مكتبه في أدما. مراسل “أل.بي.سي” ما زال مرابطاً على خطوط النار، لأنّ القصة لم تكتمل عناصرها بعد، و“لا يزال هناك أمور كثيرة ينبغي أن تُقال”.ربما كان مراسل الـ“أل.بي.سي” سلطان سليمان أحد أكثر الصحافيين نجومية خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان. أسباب كثيرة تقف وراء نجوميته، أبرزها أنه “طير يغرّد خارج سرب المؤسسة التي يعمل فيها”، كما يعرّف عنه بعضهم. كان حريصاً، في كلّ مرة يطلّ فيها على الشاشة، على الحديث عن هذا الشعب الذي «لا يمكن أن يُهزم». ويحفظ كثيرون من المتابعين لوسائل الإعلام جملة وردت في أحد تقاريره عن المقاومين: “إني لا أراهم لكـــني أستـــطيع أن أشمّ رائحة عرقهم”.
لا ينفي سليمان توصيفه بـ“الخارج عن سياسة المؤسسة التي يعمل فيها”، ويعترف بأن له “رأياً سياسياً مختلفاً“، قبل أن يستدرك: “لكنني في عملي أضع آرائي جانباً وأعطي الأولوية للحقيقة”.
لكن ما قصة هذه الجملة الشعرية التي وردت على لسانه إذاً؟ “هذه الجملة بالتحديد ليست إنشائية... هي أكثر من حقيقية”، يقول ضاحكاً ويضيف بلهجة من يكشف سرّاً: “قلت هذه الجملة في بلدة الخيام. كنت خارجاً من لقاء عجوز سبعينية تغسل ثياب ابنها المقاوم. ألا تحمل ثياب المقاوم رائحة عرقه؟”. يطيب له أن يستطرد في هذا الإطار: “ليس ما يراه الصحافي هو الحقيقة فحسب بل ما يسمعه أيضاً... ويمكنني هنا أن أقول ما يشمّه أيضاً”.
ويعترف سليمان الذي تنقّل في رحلته المهنية بين أكثر من مؤسسة: جريدة النداء، تلفزيون المستقبل، صوت الشعب، وكالة رويترز، تلفزيون “الجزيرة” وأخيراً المؤسسة اللبنانية للإرسال (منذ أربعة أعوام): “في كل هذه المؤسسات كانت الحقيقة هاجسي. هل تعتقدين بأن تغطيتي لهذه الحرب كانت ستختلف لو كنت في صوت الشعب مثلاً؟”. يطرح السؤال ويجيب: “باختصار أنا أشبه نفسي. أحترف الصحافة أينما كنت. هذا من جهة، من جهة ثانية، يشكل موقفي السياسي من إسرائيل جزءاً من أي اتفاق مع أي مؤسسة. عندما كنت في الجزيرة مسؤولاً عن نشرة إخبارية، رفضت بث مقابلة مع الرئيس الإسرائيلي كتساف لأني ضد إسرائيل. وإذا كان بوسعي ألا أعطي رئيسها منبراً إعلامياً يطلّ منه، في وقت تمنع فيه دولته كل المسؤولين الفلسطينيين من الظهور الإعلامي، فلماذا أعطيه هذا الامتياز؟».
لكن ألا يؤثر هذا الموقف السياسي في عمله؟ يستعين سليمان، للإجابة عن هذاالسؤال، بتجربته في تغطية “الغزو الأميركي للعراق” (كما يسميه): “عندما ذهبت إلى العراق كنت مقتنعاً بأن هذا البلد يعنيني. لم أحاسَب سلباً على تغطيتي للحرب، بل كان هناك تقدير عال من المؤسسة تجاهي. يمكنني القول إذاً إن سياسة المؤسسة حيالي تظهر في النتيجة. لو لم يكن يهمها أن يكون هذا الصوت موجوداً لأمكنها إسكاته».
يتولى سليمان في محطة LBC مسؤولية المراسلين في الخارج. لكن المؤسسة تتصل به إذا حصلت أحداث مماثلة لأنها تعرف قدرته، ورغبته في تغطيتها. عندما بدأت هذه الحرب كان في إجازته الأسبوعية: “ذهبت إلى عيتا الشعب على أساس أني سأغطي خبراً وأعود. لم أكن أعرف حجم القصة. انتهينا من تصوير الغارات وفي طريق العودة كانت الجسور تعرّضت للقصف. تجاوزنا القاسمية عبر طرق ترابية لكن جسر الزهراني قصف أمامنا عندئذ اتصلت بالمؤسسة فطلبوا مني التوجه إلى مرجعيون حيث كانت زميلتي منى صليبا في بث مباشر، وقمنا ببث رسالة مشتركة من هناك».
بعد ذلك تطورت الأحداث وصار البقاء في الجنوب قراراً طوعياً يتخذه المراسل بنفسه: “لم يكن أستطيع إلا البقاء. حسي المهني يفرض عليّ أن أكون في موقع الحدث”. هذا الحس سيغلب على تغطيات سليمان في مجمل تقاريره التي تميّزت، كما يكرر، بالموضوعية والحقيقة: “مثلاً، أنا بقيت مصراً على أن القوات الاسرائيلية نفّذت إنزالاً في منطقة البياضة وحوصرت هناك. كنت أنفي دائماً أن يكون حصل توغل. وفور انسحاب هذه القوات، ذهبت إلى البياضة وصوّرت المظلات التي كان يصل فيها التموين إلى الجنود».
ونسأله هل كان موضوعياً في نقل وقائع الحياة الشعبية والصمود؟ يجيب من دون تفكير: «لا يمكن أن يُهزم شعب. كيف تبررين وجود هذا العدد من الضحايا في قرى الجنوب؟ كل من بقي كان بطلاً على طريقته، هناك العديد من الحالات التي لا يمكنني أن أنساها». من بين هذه الحالات، عجوز في بنت جبيل سحبت شظية من جسد زوجها بنفسها، فاحترقت يدها «ثم ذهبت زحفاً مع زوجها المصاب إلى مستشفى بنت جبيل، واستغرقت رحلتهما يومين كاملين».
سليمان التقى يوم الهدنة رجلاً مصاباً وأوصله إلى المستشفى: «كان مصاباً منذ عشرة أيام ويداوي رجله بالماء والملح». هنا يعود إلى فكرته عن الموضوعية: «ربما ما يساعدني على قول رأيي بصراحة أني أعطي الأولوية للحقيقة، والحقيقة أن الإسرائيليين يخدمونني بإجرامهم الذي لا يحتاج إلى أي عنصر إبهار».
المهنية التي ميّزت عمل سليمان كان ينقصها، برأيه، أمر واحد لتكتمل: “كنت أرغب كثيراً في نقل حياة المقاومين. لكنني لا أحسد أي زميل استطاع فعل ذلك... ليس بوسع أي صحافي أن يأتي بكل شيء”.


حسين أيوب... عذراً !
عندما دخل سلـــــطان سلـــــيمان إلى بلـــدة عيناتا، كان حسيــــن أيوب يتابع عملية سحب جثث الشهداء من تحت الأنقـــاض، علّه يعثر على جثة والدته هناك. عرض سلطان على زميله في جريدة «الســـفـــير» أن يــــظــــهر مـــعـــه أمــــام الكامـــيــــرا فرفـــض.
ومع ذلك سارع مراسل LBC، ما إن أصبح على الهواء، إلى نقل الكاميرا والميكروفون إلى حسين، واضعاً إياه أمام الأمر الواقع. ويقول سليمان: «سألته إن كان يريد الحديث عبر شاشة التلفزيون لكنه رفض، وقال إنه متعب ولا رغبة له بالكلام... وخصوصاً أنه كان متوتراً، لا يعرف بعد ما هو مصير والدته. وكان لديه أمل ألّا يجدها بين الجثث... لكنني وقفت أمام الكاميرا، وقلت على الهواء: معي الآن الزميل حسين أيوب، ووجّهت الكاميرا صوبه، فلم يستطع أن يرفض».
في كلّ مرة يستعيد سلطان هذا المشهد، يستعيد شعوره بالندم، ورغبته في الاعتذار من حسين: «لم يتح لي الاعتذار منه بعد البث، لأنه كان قد تعرّف إلى جثة والدته ولم يعد للكلام قيمة. لكن ما حصل كان درساً لي ولكل إعلامي قد تتغلّب حماسته على مشاعره الإنسانية».