أدوار الخراط
ا يحتاج نجيب محفوظ إلى شهادة. فهو بكل المقاييس قمة من قمم الأدب العربي والرواية العربية الحديثة. أرسى قواعد مهمة لتطور الرواية العربية، فضلاً عن أنه رسم لنا قدوة باهرة في الإخلاص لأمرين، أعتقد أنهما في غاية الأهمية بالنسبة له ولنا.
الأول: الإخلاص لفن الرواية والدأب في تطويرها على مدى السنوات ببصيرة وذكاء ومقدرة على استبطان المشاعر والخلجات النفسية العميقة للإنسان المصري.
الأمر الثاني: الإخلاص والتفاني في محبة هذا الوطن الذي يحدث أن يتناسى بعضهم أهمية الانتماء إليه والولاء لقيمه الخالدة. أظن أن محفوظ أرسى في هذا المضمار قواعد وقيماً يجدر بالمثقفين والكتّاب والناس عامة أن يتأمّلوها ويقتدوا بها.
كنت وما زلت أرى أن مشروعي الأدبي يختلف تماماً عن مشروعه. إذ لكل شيخ طريقته، ولكلّ توجّهه الخاص في رؤية العالم والأشياء، فبينما هو يعنى بالظاهرة الاجتماعية مع عدم إغفال النواحي النفسية، أظنّ أن مشروعي الذي تورطّت فيه يقوم على هذه الأشياء مع حرص على الجانب الجمالي والفني الذي يتصوّر بعضهم أنه جانب شكلي، لكنه أساسي يتعلق بمضمون وجوهر رؤية العالم والناس. وإن كنت أرى فى واقعية محفوظ التقليدية ظاهرة فنية أخطر من مجرد أن تكون صورة للحياة، وأرى وراءها أفكاراً ومعاني هي أعمدة الهيكل منها، وخلف تفاصيلها المتنوّعة أنماطاً رئيسة وصوراً أولية، ونماذج أسطورية أو قالبية تحكمها جميعاً قدرية صارمة محتومة ومرسومة سلفاً. رغم اختلافنا هذا، أكنّ للرجل كلّ تقدير واحترام ومحبة. والمحبة هنا أساسية، يجب التأكيد عليها، وأتحدّى أن يأتي أحد بشيء منشور على لسان قلت فيه إن محفوظ لا يسحق جائزة نوبل كما قيل وتردّد، وقت حصوله على الجائزة. ومع اختلاف مشروعينا، إلا أننا نتشارك في شيئين أساسيين: حبّ الفن وحبّ الوطن!
ولعلّي لا أنسى آخر مرة التقيته فيها، منذ سنوات، لكن ما زالت فى ذهني ابتسامته الودود التى تتحول إلى ضحكة مجلجلة مشهورة وصفاء ذهني وروحي نادر. إذ ينفتح الرجل على كل الآراء والمواقف، وخاصة إذا كانت تختلف مع مواقفه وآرائه!