فيصل درّاج
حين قام نجيب محفوظ بخطواته الأولى في عالم الرواية مطلع الثلاثينيات، كان عدد من المبدعين قد باشر الكتابة الروائية أو تهيّأ لها. كان محمد حسين هيكل قد كتب، منذ زمن، رواية “زينب”، وتوفيق الحكيم أنجز “عودة الروح”، في السنة التي نشر فيها محفوظ عمله الأول “مصر القديمة”. وكان هناك المازني وطه حسين، والعقاد في روايته اليتيمة “سارة”... غير أن محفوظ اختطَّ درباً يميّزه عن الآخرين، إذ إنّه لم يتعامل مع الرواية من باب تجريب جنس كتابي، والانتقال سريعاً الى جنس مغاير. بل رأى في الكتابة الروائية مشروعاً مترابط الحلقات، كل مساحة فيه تفضي إلى أخرى أكثر اتساعاً، كي يستوي المشروع واضح الملامح والخطوط. كان على القلم الشاب أن يتأمل ما كتبه غيره، وأن يبحث عن أرض جديدة يشيد فوقها مشروعاً لا يعرفه سواه، ينقل الرواية من أقاليم الترحال والاختبار إلى موقع محدد الأطراف، تكون الرواية فيه سيدة على أمورها. ولما كان الوضوح جوهر كل مشروع وقاعدة له، فقد كان على محفوظ الذي بدأ يكتب مقالات فكرية ولمّا يبلغ العشرين، أن يبحث عن منظور يلائم المشروع الذي يطمح إليه. وعثر الشاب على ضالّته في مفهوم التاريخ، كما لو كانت مساءلة الماضي شرطاً لحوار الحاضر واستقبال أسئلته. وبدأ الشاب الذي أغواه مفهوم التقدم، بتاريخ مصر القديمة، فكتب “رواية تاريخية” تروّض قلمه الطموح وتأخذ بيده إلى حاضر انفصل عن “أصل ذهبي” مضى. وبعد مرحلة تكتب التاريخ وتسطّر فوقه شيئاً آخر، انتقل محفوظ من “كفاح طيبة” إلى “القاهرة الجديدة”. فالقاهرة قائمة، تَسْتَظْهِر ما تقول به الجغرافيا ولا تحفظ من دروس التاريخ إلا القليل. ولأن محفوظ، الذي آمن بالتقدم واطمأن إليه، كان يفتش عن قاهرة أخرى، فقد كان عليه أن يوحّد بين معنى التاريخ وسيرة القيم النبيلة، فيقرأ تغير الأزمنة، ويتأمل ما شاخ وما نهض، ويقف صارماً أمام عالم القيم والأخلاق.
كأن النهوض المرتجى محصلة ذهبية لمعرفة تاريخية مبصرة، ولأخلاق نبيلة لا يطولها العطب. وفي تلك الرحلة المضيئة، الخصبة، كتب محفوظ “القاهرة الجديدة” و“خان الخليلي” وروايات أخرى، حتّى توصّل إلى لحظة تزاوج بين تاريخ مصر الحديثة ومعنى التاريخ كما تبصره الرواية، فكانت “الثلاثية” التي فرضت محفوظ رمزاً للرواية العربية كوجود لا تنقصه الأصالة. يكتب علي الراعي في كتابه “دراسات في الرواية المصرية”: “إن فن الرواية في بلادنا دخل على يد نجيب محفوظ مرحلة التأليف الكبير، وإن اليوم الذي يقف فيه المؤلف الروائي العربي على قدم المساواة مع المعلمين الكبار في هذا الفن لم يعد بعيداً، إن لم يكن قد حلّ فعلاً بظهور الثلاثية”. غير أن محفوظ الذي كتب “رواية تاريخية” وأعقبها بـ“رواية واقعية” تنتسب إلى تقاليد بلزاك، ما لبث أن دخل مرحلة كتابية تالية، أطلق عليها محمود أمين العالم تسمية “المرحلة الفلسفية”. تجسّدت هذه المرحلة في أعمال جديدة، بدأت من “اللص والكلاب” ولم تنتهِ مع “ثرثرة فوق النيل”. وبغضّ النظر عن التصنيفات، راح محفوظ يطرق أشكالاً مختلفة، محققاً معنى النصّ الروائي الذي يترجم أحوال الحياة في وجوهها المتنوعة. وهو لم يكن يطرق أشكالاً جديدة، إلا لأنه كان يصطدم بأسئلة جديدة، يصوغها وعيٌ يلهث وراء معنى الوجود، تارةً كما في “أولاد حارتنا”، أو يفرضها واقع ملتبس الدروب تارة أخرى، يفضي بالباحث عن الحقيقة إلى لا مكان، كما هي الحال في “السمّان والخريف” و”قلب الليل” وروايات أخرى. يبدأ محفوظ مجموعته القصصية “الفجر الكاذب” كالآتي: “كأنما هو سباقٌ بيني وبين قرص الشمس المائل نحو الغروب”. والسباق الذي يقصده الروائي العجوز، هو طمأنينة العادلين قبل أن يركنوا إلى النوم الطويل. فبين هذه المجموعة وعمل محفوظ الأول، مسافة زمنية تقترب من ستين عاماً، أنتج خلالها محفوظ نصّاً روائياً يختصر تاريخ مصر الحديثة. معه بات الروائي مهندساً يتأمل معمار التاريخ، في واجهته الجميلة حيناً، وفي الشروخ التي تعتريه في معظم الأحيان. كتب محفوظ عن ثورة ١٩١٩، وكان عمره سبع سنوات عند اندلاعها، ثم تابع الكتابة عمّا تلاها من عقود، فكان لمصر في الحرب العالمية الثانية مكان، ولمصر الناصرية وما تلاها مكان أو أكثر، بدءاً من “اللص والكلاب” وصولاً إلى “يوم مقتل الزعيم”. غير أن الرّوائي الكبير لا يرى مصر الكبيرة التي يعشقها إلا في “مصر الصغيرة” التي أحبّها إلى حدود الكلف، أي في القاهرة التي أدار فيها ثلاثيته، فرسم الشوارع والحواري والمقاهي، وبشراً يتوزعون على المسرّة وعلى الأحزان غير المتوقعة. كأن سيرة رواية محفوظ هي سيرة المكان الذي ألفه. أو كأن الروائي أضاف سيرة وجدانه إلى سيرة القاهرة، وسطرهما معاً صرحاً روائياً ينتزع الإعجاب.
مسار محفوظ سلسلة من المرايا، تحتضن لاوعي التلميذ النجيب الذي كانه، وتمتدّ وتتّسع لتكون سيرة حداثة ضلّت دروبها، وقف في ربوعها يوماً طه حسين وتوفيق الحكيم ولطفي السيد ومحمد حسين هيكل وغيرهم... حداثة بدأت واعدة ثم انحسرت آفاقها حتى دخلت الاضطراب الكبير أو شارفت على الانطفاء. وهذا المسار الحداثي الذي خذلته أمور كثيرة، أملى على محفوظ أن يبدأ روايته بتاريخ الجموع الحاشدة، ثم اكتفى لاحقاً بزمن الفرد المغترب، إلى أن عاد أخيراً إلى تأمل زمن مجرد مفتوح على الغياب. هذه الوجوه تجعل من قراءة رواية محفوظ، مدخلاً لا بد منه إلى قراءة سيرة الرواية العربية، أكانت مستوية الخطوط، أم أضاعت خطوطها وهي تبحث عن زمنٍ سعيد.