منتصر القفاش
نجيب محفوظ من الكتّاب الذين استطيع من خلال إعادة قراءتهم أن أتبين التغيرات التي لحقت بآرائي في الكتابة أو ما كنته في البداية وما صرت إليه. وربما هذا هو قدر الكتّاب المؤسسين ممن صاروا علامة في تاريخ الرواية. لا بد من أن تمر بهم فتتوطد علاقتك بهم أو تنتهي وفق اختيارك للرهان الفني. تعددت أشكال الرواية التي كتبها نجيب محفوظ، لكن تظل القناعة لديه بأنه يجب السيطرة على كل شكل والتأكيد على أنها نتيجة ظروف اجتماعية. وما التحول الشكلي إلا تلبية لمتطلبات الأحداث الجارية وليس نابعاً من أسئلة الكتابة نفسها. ومرة أخرى، قد يكون هذا قدر الرواد المؤسسين العرب الذين يرغبون في التأكيد على مدار رحلتهم الطويلة أنهم ما زالوا متفاعلين مع ما يجدّ من أحداث ولم يفقدوا القدرة على الكتابة عنه. وفي ظل هذه القناعة ــ القدر ــ بالأشكال المختلفة التي كتب بها رواياته لا يعيد نجيب محفوظ مساءلة قناعاته الفنية الراسخة بل يؤكد قدرته على استخدامها جميعاً في توصيل أفكاره. لذلك نجد ثباتاً في طبيعة الراوي الذي يحد دائماً من انفعالاته وشطحاته كما لا يترك لشخصياته التي يرويها أن تتمادى في المغامرة والخروج عن الإطار المتوقع منها اجتماعياً وسياسياً. الراوي هنا يتحول إلى راع يحرص على ألا يشذ قطيعه عن المجال الآمن، ولعل المثال الواضح رواية “ثرثرة فوق النيل” حيث تكثر الموضوعات القادرة على إتاحة المجال للشخصيات في التمادي بهذيانها الناقد الساخر إلى أبعد حد. لكن عصا الراعي أو ــ الراوي ــ توقف الأمر عند حد لا يهلك عنده، فالخروج في عالم محفوظ مدان أو معاقب عليه، أو تثار حوله الشبهات. ونجد هذا في “زقاق المدق” و“بداية ونهاية”. فتلك القدرية المتحكمة في شخوص الروايات هي امتداد لطبيعة الراوي، أسباب الفشل والعجز والانكسار ليست دائماً فنية بل قد تكون عقاباً مقدراً منذ البداية ولا قدرة للشخصية على صدّها.