• كان نجيب محفوظ يرد بنفسه على رسائل القراء. ننشر هنا مراسلات صاحب “الحرافيش” تسلط الضوء على مشروعه الأدبي والفكري، بينها رسالة الى الناقد الإسرائيلي ساسون سوميخ، كشفت عنها صحيفة “جيروزاليم بوست” بعد حصوله على نوبل.

  • عزيزي الدكتور لويس عوض
    أعتقد أن الازدواج اللغوي ظاهرة عامة في جميع اللغات، فما يقتضيه الفكر من تعبير تحليلي وتفسيري مختلف جدا عما تقتضيه الحياة اليومية من اقتصاد في التعبير وإعداد له بحيث يعبر تعبيراً عملياً يلبي مطالب الحياة اليومية. ولقد كان الأدب يكتب بلغة الشعر، مسرحاً وحكايات وملاحم، وباعد ذلك بين اللغتين، وأكّد على الازدواجية، ولكنه لم يقلل من عبقرية التعبير الفني. وما أكثر الذين يكتبون حوارهم بلغة الحياة اليومية، ومنهم من يكتب النص والحوار بها متجاوزا بذلك مشكلة الازدواج، فهل يلغوا العالمية؟ الحق أنهم فقدوا العالمية (المحلية) التي تتضمنها اللغة الفصحى بين البلاد العربية ولم يصلوا إلى عالمية العالم.
    إني لا أعتبر هذه الازدواجية مشكلة، فهي طبيعية، بل هي تعبير صادق عن الازدواجية في شخصية الفرد، بل توجد عادة بين حياته اليومية وحياته الروحية.

    عزيزي أنيس منصور
    أبيت ألّّّا تجعل من سؤالك مقالاً، وأن تحصي في نفس الوقت الإجابات الممكنة فلا تفوتك إجابة. وأخشى ما أخشاه أن قدمت لك إجابة سبقت في سؤالك أن ترميني مرة أخرى بالاقتباس. لكن سأحاول أن أكاشفك بذات نفسي:
    لقد بدأت حياتي بكتابة المقال، كتبت بصفة متواصلة بين عامي 1928 و1936 مقالات في الفلسفة والأدب في المجلة الجديدة والمعرفة والجهاد اليومي وكوكب الشرق. ثم اهتديت إلى وسيلتى التعبيرية المفضلة وهي القصة والرواية. ولو كنت صحافياً لواصلت كتابة المقال إلى جانب القصة والرواية. ولكني كنت وما زلت موظفاً، فلم يكن شيء يرجعني إلى المقال إلا ضرورة ملحة، يضيق عنها التعبير القصصي، وأعترف لك بأن هذه الضرورة لم توجد بعد. فأنا لا أعد نفسي من أصحاب الرأي ولكني من زمرة المنفعلين بالآراء. ولذلك فمجالي هو الفن لا الفكر. وثق بأنه لو أخرجني الله من الظلمات برأي شخصي يمكن أن أنسبه إلى نفسي لما ترددت لحظة فى تسجيله فى مجاله المفضل- بل الوحيد- وهو المقال. ألا ترى أن جرييه صاحب رأي فى الرواية الجديدة؟ وكذلك يونسكو بالنسبة للمسرح؟ ولكن ما حيلتي إذا لم يكن عندي رأي جديد؟ قضى ربك أن أكون من أصحاب القلوب لا العقول ولا مناص من الرضا بقضاء الله.

    عزيزي الشاعر معين بسيسو
    الحق اني وجدت نفسي على باب المسرح. والظاهر أن انفعالاتي الأخيرة وجدت في الحوار خير معبر عنها. لذلك طغي الحوار على السرد والوصف في القصص ابتداء من “أولاد حارتنا” حتى كاد يستأثر بها في " ثرثرة فوق النيل” و"ميرامار” وبعض القصص القصيرة. وكانت المسرحيات الخمس القصيرة هي النتيجة الطبيعية لذلك. ولكن المسرح حياة قائمة بذاتها، لها تربيتها الخاصة وذوقها الخاص وحاستها الجماهيرية المحددة. فليس المسرح تعبيراً بالحوار. ولذلك لا أعتقد أنني تحولت إلى المسرح، ولا أنه يمكن أن يكون وسيلتي التعبيرية المفضلة. ولذلك أيضا أعتقد أنني اهتديت إلى شكل يوفق بين القصة من ناحية والحوار من ناحية أخرى، وأنه يحقق لي الرضا التعبيري المنشود. وقد نشرت قصة قصيرة بهذا الشكل فى الأهرام، هي "عنبر لولو” كما كتبت به قصصاً أخرى أرجو أن أتمكن من نشرها قريباً.
    الأستاذ سامسون سوميخ
    إليك صادق تحياتي وشكري وبعد
    فقد أطلعت على رسالتك بسرور صادق، إعرابا عما أكنه لك من شكر لعنايتك الكريمة بدراسة أدبي وقد صرحت في أكثر من مجال بأن كتابك عنى يعتبر عملاً نقدياً عميقاً وعاملاً وشاملاً وأنه يعتبر من أفضل ما كتب عني إن لم يكن أفضلها جميعاً وطبيعي أنني لمست فيه حبك للأدب العربي ولاجتهاداتي فيه لا تحرياتك عن عقلية عدو بل أن دراستك كانت غنية فى المقام الأول وإنسانية بالمعنى الشامل والدقيق وأني أوافقك على الأسباب التي منعتك من الاتصال بي وأنت بصدد التأليف والحق أن الاتصال بالمؤلف – فيما عدا التحري عن بعض المعلومات الموضوعية إذا تعذر الحصول عليها غير مجد فى نظري بل لعله مضلل فنحن لا نكتب للتعبير عن أهداف جاهزة يمكن إبلاغها للغير بقدر ما نكتب لاكتشاف هذه الأهداف وبالتالي لاكتشاف أنفسنا والآخرين وذلك هو الغالب في ثلاثة أرباع العمر، شكراً لك تقديرك لدوري في أدبنا وأرجو ألا تكون مغاليا فيه كثيراً أرجو أن أشكرك بنفسي فى يوم قريب إن شاء الله ولندع اللهم معاً أن تكلل المساعي المبذولة اليوم بالنجاح وأن يعود شعبانا إلى المعاشرة المثمرة كما كان الحال في ماضيهما الطويل فما لا شك فيه أن تعاونا مثمرا قام بين شعبينا على مدى الأعوام الطويلة فى العصور القديمة والوسطي والحديثة وأن أيام الخصام كانت قصير ة وقليلة. غير أننا ويا للأسف عنينا بتسجيل لحظات الخصام أكثر مائة مرة من تسجيل أجيال الصداقة والتعاون وأني أحلم بيوم يحيل بفضل التعاون المشترك هذه المنطقة إلى مقام مضئ بمشاعل العلم مبارك بمبادئ السماء السماوية وإلى اللقاء يا سيدي الأستاذ العزيز وأنت وأوطاننا على خير حال.

    عزيزي الأستاذ رشدي صالح
    ترى ماذا يعني صاحبنا الشاب بقوله “احتواء مصر”؟ وأي احتواء؟ وأي مصر؟ لعله يقصد بالاحتواء الفهم والتعبير، ولعله يقصد بمصر، مصر اليوم. فإن صح ظني فإني لا أختلف معه. إنما يقاس عملنا بتعبيرنا عن مصر الأمس، أما تعبيرنا عن مصر اليوم فهو تعبير المخضرمين المشحونة أبصارهم برواسب الأمس. ولاشك عندي في أن الشبان أقدر منا في التعبير عن مصر اليوم والغد. غير أن حكم صاحبنا الشاب سابق لأوانه، لأنه يعقد مقارنة بين جيل قدم عطاءه كاملا، وجيل بدا تعبيره بجملة قصص قصيرة أو رواية واحدة، ولكن ذلك لن يغير فى نظري من الحقيقة الثابتة وهي أن كل جيل أدبي أقدر على التعبير عن زمانه. ولكل زمان دولة ورجال!



    سر الحقيبة السوداء
    في حياة عميد الرواية العربية العديد من الأسرار التي باح بها لأصدقائه، لكنه طلب منهم عدم الافصاح عنها! من بين هذه الأسرار قصة الزيارة التي قام بها مسؤولون فى إحدى الدول العربية لمحفوظ في منزله، بعد حصوله على جائزة نوبل، وبيدهم حقيبة سوداء، ملأى بأموال تساوي قيمة الجائزة. أخبروه: “كل ما في الحقيبة لك والمطلوب منك الاعتذار فقط وتوجيه بعض اللوم والنقد ولا بأس من بعض الشتائم للغرب الذي يعادينا”.
    هذا السر باح به محفوظ لرجاء النقاش، الذي ما زال يحتفظ لنفسه باسم الدولة والمسؤول الذي قدم النصيحة! صاحب “الثلاثية” رفض العرض وأكد لصاحبه أن الجائزة ليست له وحده إنما للأدب العربي كله!