إبراهيم فتحي
معظم ظواهر السينما المصرية كانت بداياتها من نجيب محفوظ. فأفلام “الفتوات” بدأت بـ“الشيطان يعظ” لأشرف فهمي، وأفلام مراكز القوى بدأت من “كرنك” لعلي بدرخان. ويرجع الناقد المصري هاشم النحاس سيادة أفلام “الفتوات” والحرافيش المأخوذة عن “ملحمة الحرافيش” لنجيب محفوظ إلى ما وجده السينمائيون في حكايات تلك الملحمة من عوامل الجاذبية، وفي مقدمها توافر الشخصيات الدرامية المتصارعة، والمعارك الجسدية الفردية والجماعية، وغرابة الجو وحيويته، وإشباع الميل إلى التعرف على الماضي، فيما تسمح الأحداث بحرية الإسقاطات على الحاضر.
أعمال محفوظ المنقولة الى الشاشة تطرح استناداً إلى العمل الأدبي قضية الحاكم العادل باعتباره الحلم الذي تحقق يوماً فى الماضي (فيلم “المطارد”)، أو الحلم الذي يمكن أن يتحقق باختيار الفقراء من الحرافيش (“التوت والنبوت”)، أو الحلم الذي يجب التخلي عنه واستبدال فكرة الحاكم العادل بفكرة حكم الشعب نفسه بنفسه (“الجوع”). وتشترك تلك الأعمال في مناقشة إفساد السلطة للحاكم الفرد (“أصدقاء الشيطان” و“الجوع” و“الحرافيش”). ظهرت حتى بداية التسعينيات سبعة أفلام عن ملحمة الحرافيش وحدها.
دارت نقاشات كثيرة حول “أمانة” الأفلام للرؤى السياسية كما تجلت في كتابات محفوظ الأدبية. أولى الروايات المنقولة الى الشاشة، أي “بداية ونهاية” التي أخرجها صلاح أبو سيف عام 1960 (كتبها محفوظ عام 1949)، لاقت استحساناً. وعلى العكس من ذلك لقي فيلم “زقاق المدق” من إخراج حسن الإمام (1963) عن الرواية الصادرة عام (1947) حملة نقد شرسة بسبب ما اعتُبر تقديم عشرين شخصية في “بورتريهات” مسطحة، من دون إيقاع سينمائي يبرز الأحداث الهامة. واتهم بتغيير رسم الشخصيات ودورها ودلالتها، والوقوف عند أشلاء القصة مع تقديم نهاية مغايرة. لكن نجيب محفوظ كان متسامحاً حيال ذلك، إذ قال حينذاك: “المخرج مؤلف جديد خالق، والأجدر أن يقال فيلم عن رواية لنجيب محفوظ”.
وفي السنة عينها أنتج فيلم “اللص والكلاب” من إخراج كمال الشيخ عن رواية صدرت عام 1961، وعرف إقبالاً جماهيرياً، لكن التعليقات انهالت على خروج المخرج على روح النص، وعدم التعمق في معنى الأحداث. وفي عام 1964 أنتج أول أفلام “الثلاثية” هو «بين القصرين» من إخراج حسن الإمام الذي أخرج “قصر الشوق” عام 1967، ثم “السكرية” عام 1973. استأثرت هذه الأفلام باهتمام كبير. لكن التعليقات الكثيرة على أفلام الثلاثية تنحصر في المعالجة السطحية للشخصيات، والإطالة في المشاهد الاستعراضية، وركاكة تصوير النضال الشعبي، والانفصال والتشتت بين العناصر السياسية واليومية وجمود الصراع الدرامي.
ومن الأفلام المهمة التي استأثرت بردود أفعال قوية، فيلم “القاهرة 30” (أخرجه صلاح أبو سيف عام 1966) عن رواية القاهرة الجديدة (1964). وتعبّر الرواية في رأي سمير فريد عن الغليان السياسي والاجتماعي بين الحربين. لكنه أخذ على الفيلم أنه على عكس الرواية، بالغ المخرج في دور ممثل الاشتراكية، كأنه يؤكد وجهة نظر كاتب السيناريو والمخرج في الواقع المصري بعد القرارات الاشتراكية ويتساءل عبد القادر القط: “القاهرة 30 أم القاهرة 50؟”. فالخط السياسي في الرواية ضئيل الشأن، لكنه يتضخم في الفيلم من دون مراعاة المسرح السياسي في الثلاثينيات. وينتقد القط كون الانحراف الخلقي محوراً للصورة السلبية المقابلة لنشاط البطل الاشتراكي الإيجابي. وينتقد المبالغة في رسم وجهي الصورة، وغياب الاستفادة من التيارات الجديدة في عالم الإخراج والتصوير.
وكشفت بعض التعليقات عن ضغط الفكر الرسمي على الأفلام في اتجاه تعديل ما جاء في الروايات: ويأتي تعليق محفوظ دفاعاً عن السياسة التي لم تعد مقصورة على المفهوم القديم الذى يحتكره بعض المحترفين، بل أصبحت اليوم حياة الناس وأنشطتهم المختلفة، وهي ترتبط بالفن الذي يعبّر عن الإنسان في علاقته بنفسه وبالآخرين. ومن المعروف أن نجيب محفوظ لم يكتب رواية تؤرخ لثورة تموز 52، على نحو مباشر، لكننا نجد انعكاساتها في “السمان والخريف”، و“اللص والكلاب”، و“الشحاذ”، و“ثرثرة فوق النيل”، و“ميرامار”، و“الكرنك”، وغيرها، وكلها أفلام أثارت الكثير من الجدال.