محمد بدوي
نبدأ من النهاية، من حيث أنهى الكاتب متنه الكبير. فكتاب نجيب محفوظ قد انغلق لينفتح على التأويل والقراءة (...).
نقرأ كتاب محفوظ فنشتبك معه ونجادله ونؤوّله، وقد نخونه فنجعله ينقلب على نفسه (...). لكننا فى النهاية أبناء اللحظة التى عاش فيها محفوظ وضحاياها، هذه اللحظة بوّأته موضعاً بعينه. حوّلنا رواياته وقصصه إلى أفلام ومسرحيات ومسلسلات، أي أوّلناه، كل من موقعه، حتى إن بعض ما أوجده من شخوص أصبح نماذج وأشخاصاً من لحم ودم نشعر بأننا نعرفهم ونشاطرهم العيش، منها سي السيد أحمد عبد الجواد الذي لفرط حضوره يلوح كأنه من سكان مصر المتعينين.
ثم جاءت نوبل، جاءته من دون أن يبذل جهداً من أجل الحصول عليها. ينتمي محفوظ إلى ثقافة تبدو لمانحي نوبل غامضة وبعيدة ومختلفة. ويكتب بلغة على عكس لغاتهم، تبدأ من اليمين إلى اليسار، علاماتها وحروفها مختلفة عن أبجديتهم (...). وكان أن تحول نجيب محفوظ من مواطن دؤوب مجتهد إلى مواطن خاص، لا ينبغي أن يُقارن بغيره في الصحف والإذاعة والتلفزيون. وصائغو الأفكار وناشروها وضعوه، بأمر من الدولة، في مرتبة كادت تجعله وثناً، فيما يحاول هو جاهداً ألاّ يؤمّه أحد، ألاّ يصبح باروداً في مدفعية غيره، لكي يظل كما أحب أن يكون دائماً: كاتباً لا سلطة له سوى سلطة الكتابة. لذا، يعي محفوظ أن من يختلفون معه وعنه ينتقدونه على التقريظ الذي ينال كل من أصبح جزءاً من الدولة، هؤلاء الذين يجرّدونه من الكاتب ليلفّوه في حرير رجل الدولة المباركة إيديولوجيتها، يأخذونه من الناس الذين كتب عنهم ولهم ويعلم أن من بين ظهرانيهم يخرج القادرون على إعادة إنتاجه.
كان يمكن أن تكون نوبل سبباً يجعل الكتّاب يندفعون في تقليده واحتذائه. لكن الأب المصري كان قد تجاوز هذا المأزق (...). الكتّاب المصريون أدركوا مبكراً أن كتاب محفوظ تجربة لا يمكن إعادة إنتاجها أو تحويلها إلى مدرسة أدبية. إنه يبدو لهم الرائد والمؤسس والكاتب، وكان يذكّرهم بفنان مصر القديمة الذي يقضي عمره ينحت أو يرسم أو يهندس من دون انتظار جائزة (...). نوبل كان لها آثار كبيرة على الأدب وعلى محفوظ، إذ لفتت النظر إلى الأدب المكتوب بالعربية فنشّطت حركة الترجمة، وأحيت في نفوس الكتّاب الشوق إلى تحقيق ما حقق محفوظ... بل إن شمسها شوشت على كتّاب آخرين لا يقلّون أهمية عن محفوظ، ومنهم يوسف إدريس. لكن أثرها الكبير يمكن لمسه في تأكيد صفة الكاتب ب (أل) التعريف على محفوظ. ولأسباب كثيرة يمكن أن نلحظ ميل المجتمع المصري الذي يحاول أن ينفلت من تقليديته وشموليته إلى تجسيد صفة ما في شخص بعينه، المطرب الأوحد، الكاتب الأوحد، وقبلهما طبعاً الزعيم الأوحد. ولعل محفوظ يكون آخر من يُمنح هذه العلامة الدالّة، فعلى رغم كل شيء، أي على رغم بطء التغيير وجسامة المعضلات، فإن السياق المصري يسير حثيثاً إلى مدخل حقبة جديدة تنطوي على تكثير المراكز والنماذج والانفلات من هيمنة الوحدة.
كان نجيب محفوظ في مراهقته لاعب كرة قدم مشهوراً بالمراوغة والحيلة والسرعة، ثم قرر في لحظة ما أن يهب نفسه للكتابة. (...) هل بدأ محفوظ كتابته بما يسمى في خطاب نقّاده الرواية التاريخية مصادفة؟ وما العلاقة بين “المؤرخ” و“اللاعب”؟ المؤرخ شيخ جليل مولع بتقصّي الحقيقة والذود عنها وإظهارها. من أجل هذا يتجشّم عناء البحث ومقارنة الوثائق والذهاب مع الاحتمالات حتى آخرها. أما اللاعب فعقله بين قدميه، هاتين القدمين المبصرتين القادرتين على مباغتة المتفرجين وكسر توقعاتهم وإدهاشهم. إلى ذلك، هو رجل لاه، فائدته كامنة في لعبة متعته التي تأتي منها متعة الآخرين.
(...) ومحفوظ، هذا المزدوج الذي يتناطح فيه لاعب لاه ومؤرخ جهم، لا يذرف دمعة رثاء واحدة. اللاعب هو الكائن الذي يلعب من دون انتظار جدوى... فيما المؤرخ مهووس بالحقيقة، يتصورها منثورة هنا وهناك، وعليه أن يطاردها ويلمّ شتاتها ويجمعها ويبث الحياة فيها لتتألق، لكن حينما يجتمع اللاعب والمؤرخ، نصبح مع الكاتب بحيث يندمج الاثنان فتتهاوى الحدود بين اللاعب اللعوب والمؤرخ الجهم... ولا نعرف أين يبدأ أحدهما وأين ينتهي الآخر.
كفّ محفوظ عن ممارسة كرة القدم ثم نذر نفسه للكتابة. لكنه، وهو يشيد صروحه الضخمة، الشبيهة بمعابد أسلافه وأهرامهم ومساجدهم، ويتقصّى الحقائق والأوهام والهواجس منتقلاً من كتابة تاريخ الدنيا في “أولاد حارتنا” و“الحرافيش”، إلى كتابة تاريخ مصر القديمة “أم الدنيا” في “رادوبيس” و“عبث الأقدار” إلى كتابة القاهرة في العصر الحديث... كان دائماً منطوياً على اللاعب الذي تحوّل بالمران والدربة إلى ساحر يخلب ألباب المتفرجين، ويخلط السم والترياق والدمعة بالضحكة. ألم يجعل من “موسى” في “أولاد حارتنا” حاوياً مروّض ثعابين؟ ومن المعلم “عرفة” صاحب وصفات لتقوية الباه ومازج سوائل تتحول إلى لهب؟
في كتابة محفوظ مراوغة كاملة، صراع يحاول كل طرف فيه أن يلغي الآخر ويدمره... كتابة ملتبسة خادعة تمارس الخيال بوصفه حقيقة، وتكتب العالم فى أقصى احتمالاته فيصبح الواقع خيالاً. من ناحية نحن مع كتابة أخلاقية صارمة تصقل الفكرة وتزيّنها وتدعو إليها، لكننا من ناحية أخرى مع سرور في اللعب وتلذذ في المناورة.
مقاطع من كتاب “مملكة الله”.. يصدر في كانون الثاني 2007