كائنات نبيل نحاس... ملعبها الحرية

  • 0
  • ض
  • ض

تتابع كائنات نبيل نحاس (1949) نموها البطيء في لوحاته، بحيث تجعل منه راصداً للتحولات في الطبيعة من داخل اللوحات نفسها لا من خارجها. هذه هي مهنته إذاً، أن يلاحق الطبيعة في لوحاته، ويطوّر العلاقة فيما بينهما، مرتكزاً إلى الفوضى التي في الطبيعة المتعالية نفسها، لا إلى منهجٍ يمكن مصادفته على نحوٍ يُحتمَل أن يتواتر في الأعمال.

بهذا المعنى، يصبح فهم دور «الفركتال» ممكناً، بكونها لا تُزج إلى جانب العناصر الأخرى لغايةٍ وظيفية، إنما تأتي في سياق رؤية شخصية للطبيعة طوّرها نحاس عبر الزمن. وهكذا، قد تتقاطع هذه الأشكال الهندسية المبعثرة مع التعريف الهيغلي للجمال والطبيعة، وعلى وجهٍ خاص مع إحدى أهم ملاحظات الفيلسوف الألماني، عن تفوق الطبيعة على الجمال تفوقاً حاسماً، بحيث أنها تضيف إلى الصفة ولا تعوزها.
وفي ظل العلاقة بين ثنائيات قد تقوم عليها أعمال نحاس أحياناً، وقد تكون على اتفاق واضح تارةً، كالـ «الطبيعة والجمال»، أو تتعارض تعارضاً بديهياً «الخير والشر» (لوحات الثمانينات مثلاً) تارةً أخرى، لا بد من إشارة ضرورية إلى الأبعاد السيميائية في الأشكال الهندسية العربية المحفورة في قلب لوحات مشبعة بالتجريد الغربي، وفي أمكنة تستحوذ على حيزٍ بصري لا يمكن تجاهله. ربما يكون أسهل افتراض لتفسير علائقي بين الرموز المُتحدث عنها، هو سيرة نحاس نفسه، وهويته المتأرجحة بين ثلاث محطات رئيسية، تتوزع كرونولوجياً في تداعياتها على أعماله. النشأة الأولى في القاهرة بين ألوان الأقمشة التي تاجر بها والده، وراكمت على الأرجح انطباعات شخصية لم يتوان عن استعمالها في مراحله الاولى فنياً. المرحلة الثانية هي آلام بيروت 1982 والصور القاتمة التي كانت تأتي من مدينةٍ وقفت أمام رغبة إسرائيلية عارمة بالتخريب، حيث اعترض على الغزو باللوحات العمودية العملاقة، مستخدماً لونين أساسيين: الأبيض والأسود. ثم لا مفر من الحديث عن الانتماء الحاسم في حياتهِ إلى حداثة نيويورك، وإن كانت المحطة الأخيرة قد بدأت علمياً في سبعينيات القرن الفائت، أي قبل اجتياح بيروت. في أعماله بعد التسعينيات، يبدو نحاس كأنه اختار وعياً فنياً آخر عن الذي بدأ بهِ، يقوم على المزج بين الفن الغربي ــ بما يحويه هذا المصطلح العملاق من تشعبات ــ وبين الهندسة الإسلامية بقيمتها الفنية الموازية للقيمتها العلمية، آخذين في الاعتبار بأن التجريد بين السبيعنيات وحتى التسعينيات كان تياراً صاعداً في نيويورك، ملعب نحاس الأول والأخير. غير أنه فعل كل ذلك من دون أن يغادر الإطار العام: الطبيعة. الطبيعة بمعناها المتعالي دائماً هي الهوية الثابتة، التي تتأرجح حولها أطياف أسهمت في الإضافة إلى الأصل ولم تستطع تبديده. بالنسبة لنبيل نحاس نفسه، كان هذا تجديداً، وبالنسبة للفن التشكيلي، برأي كثيرين كان هذا تجديداً في التجريد، أي استخدام «الفركتال» نفسه لتمرير الرسائل البصرية. وقد يكون هذا العرض بحد ذاته ليس تجريداً، إنما هذه حياة نبيل نحاس التي وضعها في لوحاته، كهويةٍ مرنة يمكنه الإفلات منها بسهولة، والتشبث بها متى أراد ذلك أيضاً.
في أي حال، وعلى عكس ما يعتقده كثيرون، فإن حداثة الفنان الذي نتحدث عنه لا تعكس بالضرورة حداثة بيروت، ولن تعكسها إطلاقاً. وهذه الرغبة بتسويق هذا الوهم، هي وليدة نفس استشراقي يمكن التماسه عند بعض المحتفين بنحاس (لا جميعهم)، كما لو أنهم يظنون أن باستطاعتهم أن ينسبوا هذه الأعمال إلى بيروت متخيّلة بعد مجزرة سوليدير، لا إلى الهوية المركبة في الرجل وفي أعماله المتحررة تماماً من أي صبغة بيروتية بنسخات المدينة المتعددة. نتحدث هنا عن تلك اللوحات التي لا تترك أي شعور بالريبة، رغم قدرتها الفائقة على إثارة سجالات بصرية حادة بين عدة عناصر، يستحال أن تكون بيروتية خالصة، خاصةً بعد «الفركتال»، الذي هو، بطبيعة الحال، عنصر يتجاوز الأشكال الهندسية التقليدية، بالدرجة الأولى في قدرته على التعبير. وعلى هذا القياس، فإن اعتبار هذا العنصر عنصراً خارجياً، يعيدنا إلى هيغل نفسه، الذي يرى أن الجانب الخارجي الذي يحتاجه المثال على ذات القدر من حاجته للفحوى المتماسك، والطريقة التي يتداخل فيها واحدهما مع الآخر، يطرحان أمامنا مسألة «مثالوية» العلاقة بين الفن والطبيعة. وقد نجد هذا بوضوح في أعمال نحاس. في الواقع، العنصر الخارجي والتشكل الذي يتلقاه، يرتبطان، بالفعل، بما نسمّيه اصطلاحاً، الطبيعة. تلك الطبيعة التي تتمظهر في كائنات هندسية تتكاثر بلا حسابات في كثيرٍ من المواضع، لكنها لا تتحد إلا نادراً، كما لو أن صاحبها يريد لها دائماً أن تبقي على قدرٍ واسع من الحرية.

معرض نبيل نحاس: حتى 30 تموز (يوليو) ــ «غاليري صالح بركات» (كليمنصو ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/345213 ــــ
salehbarakatgallery.com

  •  من دون عنوان (أكريليك على كانفاس ــ 214×274 سنتم ــ 2015)

    من دون عنوان (أكريليك على كانفاس ــ 214×274 سنتم ــ 2015)

0 تعليق

التعليقات