عن الجناس الناقص بين ياسين والياسمين الدمشقي

  • 0
  • ض
  • ض

كم هو شاق على المرء أن يكتب عن الموت «الطازج» لأحد أقرب الأصدقاء إلى قلبه، كما هو الحال مع ياسين رفاعية. وكم هو صعب ومدعاة للحرج والمرارة أن تدعى إلى رثاء شخص عزيز ولصيق بحياتك، فيما جثمانه لم يوار التراب بعد، وفيما أنت منشغل بترتيبات موته وإخراجه من المستشفى ونشر نبأ رحيله حيث يجب أن ينشر.

كما أنّ عليّ من جهة ثانية أن أصدّق النبأ الفاجع كي تصدّقني اللغة وتمنحني ما أشاء من المفردات التي تليق بفداحة الخسارة وغصة الفقدان. ذلك أنّ علاقتي بياسين تعود إلى أكثر من أربعة عقود من الزمن، كانت أكثر من كافية لمنح صداقتنا فرصاً ومطبات كثيرة لاختبار رسوخها المتجدد يوماً بعد يوم، ولتحويلها إلى مناسبة مديدة للمناومة وتبادل المسرات والأحزان ولاحتساء ما أمكن من ملذات الحياة وشقاءاتها. وحين انتقلت إلى منزلي الجديد في رأس بيروت، تكفلت المصادفة من جهتها أن توثق ما بيننا من مودة، حيث كنت أستطيع أن أطل من إحدى النوافذ على شرفة منزل ياسين التي زينتها زوجته أمل جراح بنباتات الفل والغاردينيا وبالياسمين الذي كان شذاه العطر يعود بالزوجين الكاتبين إلى مرابع دمشق، وأحيائها الفواحة، بقدر ما كان يصنع مع اسم صاحب «مصرع الماس» جناساً شبه كامل يدفعني على سبيل الطرفة إلى أن أسميه «ياسمين رفاعية». لم تكن الكتابة وحدها هي ما ربطني بياسين، ولا تلك الشرفة الزاهية التي أطلقت أمل جراح من وراء نباتاتها المعلقة زغرودتها الحنون، محتفيةً بزفافي المفاجئ قبل 13 عاماً، مغالبةً مرضاً خطيراً في القلب وضع حداً لحياتها القصيرة بعد عدة أشهر. ولا القدر الذي جعلنا نلوذ بالمكان عينه حيث كان كل منا يخلد إلى ركنه المنعزل في مقهى «دبيبو»، لكي يعاقر أحدنا لغة الشعر ويصنع الآخر مصائر مناسبة لأبطال رواياته. بل كان ثمة شيء يتصل بالكيمياء، وشيء آخر يتصل بالموقف من العالم، وبعشق الجمال حيثما انعكست تجلياته، وبانتزاع الضحك من جذور المفارقات، وبالاحتفاء بالأنوثة الكونية التي تجد في المرأة مرآتها الأصفى وظهيرها الساحر. ولعل فرح ياسين بالحياة وانجذابه الواله إلى عقد صلات المودة مع ينابيع العذوبة الأم، هما ما جعلا حياته آهلة بالصداقات، وهما ما دفعا شاعراً رائعاً وفائق الحساسية كأنسي الحاج إلى جعله جليسه الأثير الذي يأنس إليه كلما انسدت أمامه سبل الفرح والابتهاج. ولعل أنسي المتردد باستمرار إلى منزل ياسين كان، وهو يكتب «الوليمة»، يرى في صاحب «حب شديد اللهجة» التمثل الأصدق لشغفه بحب العالم، ولرغبته في التهام أطايبه من ظاهر القشور حتى صميم النواة.
كان ياسين رفاعية، بقامته الفارعة وجسمه الممتلئ، نهراً عارماً من الحكايات يمشي على قدمين. كان خزاناً من السرد والاستعادات الشفوية لشوارد الذكريات التي لم يكتب منها، على غزارة ما أنتجه، سوى القليل. صحيح أن سيرته الشخصية كانت حافلة بالانتصارات والنكسات، بالمفقودات اللقى، بالأمل وخيبات الأمل، غير أنّه كان يظفر في الحالتين بغنيمة القص، وبتحويل كل ما خبره إلى جنة من المرويات التي كان يعرف كيف يعيد اختراعها بذاكرته المتوقدة ورشاقته في توليف الحكايات. وكان كريماً في كل شيء، في الهدايا التي يغدقها على نسائه دون حساب، كما في مظهره الاحتفالي. في أناقته الباذخة، كما في لغته المتدفقة التي يسيل لها سامعاته وسامعيه. وكنا نشعر، نحن أصدقاءه ومجالسيه، بأنّ رواياته وقصصه التي أصدرها بالعشرات لم تكن سوى الجزء اليسير مما يخفيه طي نفسه، أو مما حال الموت بينه وبين إنجازه في كتب. فقد كان قادراً على التقاط كل سانحة من سوانح عيشه، وتحويلها إلى عمل سردي. والنساء اللواتي وقع في عشقهن، لم يكنّ في الواقع سوى ذرائع مختلفة للوقوع في عشق اللغة، أو لتحويلهن إلى روايات.
أما كهولته الزاحفة وشعره الذي اكتسى بالبياض، فلم يخففا أبداً من هيجان روحه، ولا من وسامته المهيبة والمشبعة بالظرف، ولا من لمعان عينيه الراغبتين في افتراس كل ما تقعان عليه من مباهج وملذات.
كأبطال الأساطير عاش ياسين رفاعية، وكأبطال الأساطير قضى ياسين بجلطة عنيفة في الدماغ، في أحد مستشفيات بيروت. غريباً وشبه وحيد، ذهب الفارس الدمشقي، الذي اتخذ منذ يفاعته من بيروت التي أحبها سكناً له، إلى حتفه الأخير، بعدما أنفق كل ما في جعبته من نهم للحياة، ولم يدخر قروشه البيضاء لأيامه السود.
وكما حدث لبدر شاكر السياب، انفض عنه معظم أصدقاء زمن الرفاه، ولم يتحلق حوله على سرير الموت إلا رفاق ستة: أخته نجاح، وابنه بسام، وزينة سعيفان، ورنيم ضاهر، ورفيق لابنه الوحيد لا أذكر اسمه، وكاتب هذه السطور. لا شيء في منزله سوى مكتبة بيته، وبعض لوحات أصدقائه من الرسامين، وصور أمل جراح، وبعض النساء اللواتي أحبهن، وشتلات الغاردينيا والياسمين التي لن تجد بعد أيام من يشاطرها الدموع قبل أن تستسلم للذبول. أما أنا، الناظر كلما خرجت من البيت نحو شرفته المقابلة، فلن أجد بعد من يرافقني في أمسيات الشعر، أو يشاطرني الجلوس في ركن المقهى، أو يعاتبني على التخلف عن زيارته كلما استبد به الحنين وأثقله جليد العزلة.

0 تعليق

التعليقات