«اعترافات» الأيام الأخيرة

  • 0
  • ض
  • ض

لدى سماعي نبأ موت الأديب ياسين رفاعية، ما كان لي سوى استعادته في البال من خلال المقابلة الأخيرة (الأخبار 5/8/2015) التي أجريتها معه. أظن أنّ رفاعية تظاهر يومها، بتمام صحته، رغبة منه في حصر اهتمامي وأسئلتي في كتابه «ياسمين» (دار جداول) الصادر حديثاً عن ابنته المتوفاة (موضوع مقابلتنا)، كفعل تطهّر أخير منه، يدلي فيه الكاتب باعترافات تؤرقه.

قعدتُ أنتظره في المقهى القريب من بيتي وبيته في شارع الحمرا، الى أن لاح متثاقل الخطو تجرّه إحدى قريباته على ما أعتقد. خطوات متثاقلة على عكس أجوبته التي تدفّقت كقافلة مسرعة كما لو تُسابق موتاً وشيكاً.
سوريا بلده كانت المبتدأ، ثم بيروت التي أحبّ وأمضى جلّ عمره فيها، الى استعادة لغرامه بزوجته الشاعرة الراحلة أمل جراح، ثم مرضها وموتها، وصولاً الى موضوع كتابه، عن ابنته الشابة التي كانت قد قضت حديثاً إثر مرض عضال، بعد مراكمات من سوء التفاهم معها انتهت بغفرانه وغفرانها.
في حضور رفاعية ـــ وعلى الرغم من مرضه البادي ـــ هناك ذلك الملمح الذي يتصدى لليأس والموت، من خلال محاولة اجتراح فهم أفضل للحياة، عبر الوقوع في غرام المكان الذي هو فيه، والتصالح معه ومع ناسه كما في علاقته ببيروت، كذلك الاعتناء بنفسه وهندامه، محاذراً الوقوع في أسر المرض المعتم، القابض، الذي أغرق جسده بالرعب. ظلّ ياسين رفاعية يُردّد على مسمعي كلما هممت بالاستراحة قليلاً من تدوين أجوبته: «اكتبي، اكتبي بسرعة، فأنا أهديك هنا كل اعترافاتي السيئة منها والحسنة. ولعل الوقت والمرض لن يسمحا لي بعد بفعل هذا ثانية». الهاجس الوحيد كان حضور ابنته التي قضت شابة، وترقد الآن كحنين مقيم في أعماقه، رغم بقائه المؤلم على خصام معها في حياتها، وهو حافظ على جفائه لها بصرامة لافتة، حتى قضت بشكل مؤثر.
في تواز صارم، عاش رفاعية حياته البيروتية، مفرداً أوقاتاً لا تحيد، للمقهى وللأصدقاء القليلين، للمعجبات ولنساء حياته، وللكتابة المثابرة التي كان يرفدنا بها كل عام.


أدار ظهره لكل
الأحكام المسبقة
في كتبه ورواياته

رغم لطف رفاعية ودماثته لمن يعرفه عن قرب، ظل بعيداً عن أجواء الشلل والجماعات بالمفهوم الصاخب للكلمة، مكتفياً بحب بيروت والتسكع في شوارعها، هي التي احترمت رأيه ومعتقده السياسي والفكري والأدبي، وهيأت له رغد الكتابة والتأليف والنشر، والحب والوحدة والعزلة الى حد، واحترمت خصوصياته على ما يرغب ويشتهي. لا يبدو رفاعية عن قرب، على كثير من التعقيد، بل تخللت جلساتنا معاً، السابقة وتلك الأخيرة، المزاح وتعداد مزايا وثراء الطبخ الشامي، ووصف الحارات السورية والأزقة، كما لو أنّه يصف لي عالماً لن تتسنى له رؤيته مجدداً.
أدار رفاعية ظهره لكل الأحكام المسبقة في كتبه ورواياته، فهو يكتب على ما كان يقول، كي يبدع نظامه الأدبي الخاص، عبر الجمال والحياة انطلاقاً مما كان يحيطه، رغم أن محيطه البيروتي هذا ليس سوى ــ على ما قال لي ــ نسخة مهلهلة عن بيروت ــ زمان، التي عرفها سابقاً.
لم يأسَ في حديثه لي على الأوضاع في سوريا، ولا على ناس سوريا، لكن لمعة الحنين كانت تطلّ بين جملة وأخرى، تُزيد من انحناءة الرجل على الطاولة ما بيننا.
تعرّض رفاعية لجميع الأفكار في أدبه: الحب، العائلة، سوريا، بيروت، الأصحاب، النساء، بيد أنه لم يسقط في فخ «الأدب الملتزم». عرف الرجل كيف يُرطّب في كتابته من آلام شعبه، عبر مفرداته الخاصة ومحاولة إضفاء أمل ما على توجسه الداخلي، ورعبه من الآتي.

0 تعليق

التعليقات