من دمشق إلى بيروت... مسيرة في تدوين الشقاء

  • 0
  • ض
  • ض

بدت القصص الأولى التي كتبها ياسين رفاعية (1934 ــ 2016)، كما لو أنها خارجة من بيت النار في الفرن الذي كان يعمل فيه. الصبي الذي ولد في حي العقيبة الدمشقي طحنته الحياة باكراً، فاكتشف قسوة العيش وجهاً لوجه.

كان يحمل صينية الكعك ويقف بها أمام «سينما غازي» يتفرّج عن بعد على ما يدور في مصنع الأحلام، وإذا به ينجذب إلى تلك القصص المتخيّلة في السينما أو إلى تلك التي كان يقرأها في الروايات البوليسية، قبل أن يجرّب الكتابة بنفسه.
لم يكن بحاجة إلى ابتكار عالم متخيّل. وجد ضالّته أولاً في يوميات ماسح أحذية يعرفه عن قرب، فكتب قصة عنه وأرسلها إلى مسابقة كانت قد أعلنت عنها مجلة «أهل النفط» في بغداد التي كان يديرها جبرا إبراهيم جبرا، وإذا بها تحصد الجائزة الأولى. هذه المفاجأة وضعته أمام عتبة أخرى في الكتابة. ومثلما اقتحم حدّاد في حيّ البحصة اسمه زكريا تامر الحياة الأدبية، أتى هذا الفرّان بخبزه الأسود إلى مطحنة الخيال. كان الاثنان يلتقيان ليلاً في مقبرة مجاورة يتناقشان بما أنجزاه من قصص. كان الأول كابوسياً وتجريبياً، فيما انشغل الثاني في مجموعته الأولى «الحزن في كل مكان» (1960) بالعيش في التجربة وتدوين الشقاء، فغرق في أوحال الأزقّة المهملة ونماذجها البشرية في بؤسها وعشقها وخيباتها. يهتف بطل قصة «العالم يغرق»: «الصخرة ثقيلة. الصخرة ثقيلة. وسيظل العالم في انحداره الأبدي يغرق في بحرٍ آسن». ثم أتبعها بمجموعة ثانية أكثر نضجاً هي «العالم يغرق» (1963). هكذا حفر اسمه بيديه وأعصابه وانفعالاته ليصبح واحداً من أبرز كتّاب الموجة الثانية في القصة السورية بعد جيل الروّاد. عمله في الصحافة الدمشقية في تلك الفترة، لم يشغله عن كتابة القصة، على العكس تماماً، فقد تتالت أعماله بغزارة، سواء في القصة أو في الرواية أو في الشعر. تنطوي الحكاية في أعماله الأولى على واقعية خشنة تنبئ عن عزلة الكائن البشري وبؤسه وعذاباته.


في «العصافير» (1980)، سيبلغ ذروة منجزه القصصي لجهة الابتكار والكثافة التعبيرية

أشخاص هامشيون وبسطاء في شوارع تضج بالحياة، لا يجدون مكاناً لهم وسط الجموع، بأحلام مؤجلة يصعب تحقيقها. هكذا تتكرر مفردات مثل: القسوة والفجيعة والعدم والموت والمقابر: «أشعر كأنني ولدت على فراشٍ من شقاء» يقول. مع «الرجال الخطرون» (1979)، تذهب قصص ياسين رفاعية إلى الكثافة والاختزال يحيط بها عالم مغلق وكتيم وعنيف. أشخاص مراقبون على الدوام. مطاردات واستجوابات واتهامات تنتهي بالاعتقال أو القتل. يضيق المكان إلى حدود زنزانة معتمة، أو أقبية رطبة، أو غرف تعذيب. إنه زمن صعود المخابرات، وانتهاك حرية الفرد وحبس أنفاسه، في متوالية سردية تنطوي على وقائع مخزية. لكنه في «العصافير» (1980) ذات النبرة الشعرية، سيبلغ ذروة منجزه القصصي لجهة الابتكار والكثافة التعبيرية. قصص صاحب «مصرع الماس» إذاً، هي استرجاع وقائع معيشة أكثر منها تجارب تخييلية؛ إذ يتفوق الحكواتي على السارد في معظم نماذجها، بعيداً عن التجريبية التي وسمت تجارب مجايليه أمثال زكريا تامر، وسعيد حورانية، وجورج سالم.
هجرته المبكرة إلى بيروت الستينيات التي كانت حينذاك مركزاً ثقافياً بامتياز، وضعته أمام أسئلة أخرى أكثر جذرية، فهو لم يتردد في تغذية عوالمه السردية باعترافات جريئة، نابشاً مناطق سريّة في حياته، من دون أقنعة. وستقوده الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن العشرين إلى الرواية، إذ عاش وقائعها عن كثب. كانت روايته «الممر» (1978) وثيقة مهمة في نفض الغبار عن تلك الحرب الطاحنة، ثم استكمل جوانب أخرى من هذه الحرب في ثلاث روايات لاحقة «رأس بيروت»، و«امرأة غامضة»، و«دماء بالألوان».
رحيل رفيقة دربه الشاعرة أمل جراح (1945 ــ 2004) إثر مرضٍ عضال، أصابه بصدمة كبرى، قبل أن يستعيد ذكرياته معها في روايته الموجعة «الحياة عندما تصبح وهماً» (2008) كنوع من التوازن النفسي في مواجهة الفقد. وسوف يغرق بعد هذه التجربة في أوقاتٍ عصيبة، سعى للانتصار عليها بالكتابة المستمرة والغزيرة والمؤلمة، رغم إصابته بداء النسيان. وهذا ما جعله يلتفت في أعماله الأخيرة إلى تشريح أحوال شخصيات تعيش شقاء الشيخوخة، وأمراض الوحدة، وصعوبة العيش.

يوارى الثرى عند الواحدة ظهر اليوم في مقبرة الشهداء في بيروت قرب ضريح زوجته الشاعرة أمل جرّاح.

0 تعليق

التعليقات