«عم تسمعينا يا دلال؟» يأتي الرّد سريعاً- على خلاف العادة- طبعاً بسبب «سلحفاة» الإنترنت. الفوتونات الصغيرة التي نظّمت سيرها فوضوياً داخل أسلاك «كهرباء لبنان» ومن ثم «أوجيرو»، وصلت أخيراً من الناصرة في جليل فلسطين الأسفل. يمكن أن ينقطع الاتصال عبر «السكايب» مع انقطاع التيار الكهربائي، نطلق «تنبيهاً»، فتضحك ضيفة «الأخبار». كان يمكن لهذا اللقاء أن يكون في مطعم «الرضى للمدخنين» في نهاية طلعة «كنيسة البشارة» في الناصرة، أو بجانب عين العدرا عند مدخل المدينة، التي غنت لها دلال وباتت أغنيتها «عين العدرا عينا» عنواناً لأطفال فلسطين وكبارها، وإذا سألت أحدهم أن يرددها، فلن يردك خائباً، فالجميع هناك حافظون لها. أو كان يمكن لدلال أن تستقل حافلة «حيفا - بيروت» وتختار هي مكاناً في العاصمة. وكانت الطريق ستستغرق ساعتين للوصول إلى هُنا... ذلك كله كان يمكن أن يحصل، فقط لو أن إسرائيل لم تسلخ راحتي فلسطين ولبنان المتشابكتين عن بعضهما.
نبدأ الحديث من آخر الفصل، من مشروع «يا ستي»، الذي أطلقته دلال أبو آمنة (32 عاماً) أخيراً في الناصرة، بعدما سبقته عشرات العروض من شمال فلسطين إلى جنوبها، ومن ثم إطلاق الكليب المصور الذي نال رواجاً هائلاً في وقت قصير.
«يا ستي» مشروع موسيقي مسرحي يعيد إحياء الأغاني التراثية الفلسطينية

تشرح أبو آمنة: «ببساطة بدأ المشروع بطريقة عفوية، عندما توجهت إليّ مؤسسة «يبوس» المقدسية لإحياء مشروع تراثي، كوني معروفة بالغناء الكلاسيكي... سألت نفسي كيف سأغني تراثاً على مسرح وهو من أقرب أنواع الغناء إلى قلبي؟». طريق الجواب على هذا السؤال تمر بعملية بحث واسعة بدأتها أبو آمنة لاكتشاف الوسائل التي استطاعت بواسطتها بعض الأغنيات أن تصل إلى مسامعنا، في حين لم تتمكن أخرى من ذلك. «عدت إلى سماع الراحل خليل موراني ومطربين آخرين اشتهروا بالتراث الشامي المسموع. رويداً رويداً، بدأت تتشكل الفكرة في رأسي. ولأنني أردت تقديمها بطريقة مختلفة، توجهت إلى الباحثة في علم التراث نائلة لبس. ولمّا أعجبني شرحها، طلبت منها أن تغني معي على المسرح». لكن ماذا ستفعل نائلة وحدها فوق المسرح؟ ستشرح للحاضرين عن الوصلة وتغني، وماذا بعد؟ «من هنا جاءت فكرة مجموعة استجلاب نساء حافظات للتراث، بدأت بأمي التي وافقت بعد إصراري. بعد وقت قصير، انضمت جدّات أخريات إلى المشروع». دلال وعشر جدّات حافظات للتراث، متعلمات، ومربيات، وسيدات مجتمع في عز عطائهن، انضم إليهن كادر من الموسيقيين المحترفين بقيادة الموزع والموسيقي درويش درويش، والفنان عامر حليحل، الذي تولى مهمة وضع وتنفيذ الرؤية المسرحية الإخراجية، بمشاركه طاقم من المصورين. هذه جميعها كانت عدّة «الورشة» التي أحيت أرواح الشهداء وأهاليهم الذين تهجروا عام 1948 عن قريتهم برعم، لتجسد حياتهم ما قبل النكبة في كليب مؤثر.
«كانت القدس محطتنا الأولى، حيث استقبلنا الحضور متعجباً، إذ كان يتوقع أن أكون وحدي على المسرح وأؤدي أغنيات طربية كالعادة، ليفاجأ بمجموعة من السيدات اللواتي أرخين شالاتهن المطرزة على أكتافهن وجلسن مستعدات لأداء الأغنية التراثية»، تشرح دلال. لكن أليس غناء التراث مجازفة في هذا الزمن، الذي حصر هذا النوع من الغناء بالأعراس الفلسطينية فقط؟ تجيب:«بالعكس تماماً، لقد أدهشنا الحضور في كل العروض التي قدمناها بإعجابه وتصفيقه الحار، وهذا دليل أن الناس متعطشون للتراث، خصوصاً أننا نقدمه على حقيقته، فأنا لم أتعلمه في المدارس ولا المعاهد أو الجامعات، تعلمته من أبي عازف العود الهاوي، عندما كان يغنيه لنا على شاطئ طبريا أو خلال رحلة شواء للعائلة في أحراش قرية صفوية المهجرة».
ورغم اختلاف المناطق الفلسطينية المحتلة جغرافياً واجتماعياً، إلا أنّ العرض لاقى ترحيباً كبيراً، ففي المثلث (وسط فلسطين)، أو الضفة الغربية، أو الجليل شمالاً، وجد آلاف الحاضرين أنفسهم أسرى مشروع «يا ستي».
أمّا المفاجأة الكبرى بالنسبة إلى دلال، فكانت بلدة معليا (بالقرب من جنوب لبنان)، إذ أنها «معروفة ببعدها قليلاً عن التمسك بالمفاهيم الوطنية. في الآونة الأخيرة، بدأت السلطات الإسرائيلية بمحاولات لإقناع الأهالي بتغيير قوميتهم من العربية إلى الآرامية، مع تسخير بعض رجال الدين المسيحيين لتمرير مشروع الخدمة العسكرية الإجبارية على أبناء هذه الطائفة. مع ذلك كله، كان العرض في معليا الاجمل على الإطلاق، فهو ليس مجرد تقديم أغانٍ تراثية، بل فيه دعوة إلى التشبث بالأرض والتاريخ والهوية. 2500 شخص وقفوا يغنون معنا «الأرضُ أرضي والبلاد بلادنا». وهذه المعايير نحاول دوماً تمريرها ولو بطريقة مفرحة حد الدبكة».
مفرحة؟ لا أحد يسمع أغانيكِ إلا ويبكي مهما كبر حجم الفرح الذي يحمله قلبكِ، لماذا برأيك يتأثر الناس إلى حد البكاء؟ تجيب: «لا نستطيع أن نكون مفصولين عن واقعنا الحزين والمؤلم. ويبدو أنّ الله خلق في صوتي البحة الحزينة، فضلاً عن أنني تربيت على أغاني الشجن لأم كلثوم، وصالح عبد الحي وغيرهما من العمالقة، وعندما بدأت أغني تراثنا، استعملت الأدوات والأساليب التي اكتسبتها منهم ومن سيد دويش، وعبد الوهاب، وفيروز، ووديع الصافي...». لهذا إذن يبدو أنه ليس ضرباً من ضروب المصادفة أن تجد مثلاً أغنية «قولوا لإمه تفرح وتتهنى، ترش الوسايد بالعطر والحنة...» تُغنى «ع الميلتين» في العرس، وفي جنازة الشهيد أيضاً!
ورغم ذلك، مشروع «يا ستي» هو «كتلة من الفرح» كما تقول دلال، مضيفةً «الأغاني تذكرهم بجداتهم وأجدادهم عندما كانوا يغنونها لهم وهم صغار، وهذا ما قد يجعلهم يتأثرون حتى البكاء. في مشروعي السابق (عن بلدي) الذي غنيت فيه «عين العدرا عينا منها تعمر بيتنا»، وجد الناس أنها بمثابة عنوان للانتماء، خصوصاً الأطفال، الذين عبّرت عنهم موسيقياً، بينما حين كنّا صغاراً، استمعنا إلى الأغاني المصرية واللبنانية، وكان تراثنا موجوداً بصيغة غير أكاديمية، وعفوياً لأن تسجيله جرى من خلال الأعراس».
إذن ما هو الفرق الذي أحدثه المشروع؟ تجيب: «جيل اليوم مكشوف بتمتع بالإمكانيات والأدوات لسماع أفضل التقنيات الصوتية. ولذلك، فالمشروع يقدّم له التراث بتقنية عالية، فهو لا يريد التنازل عن ذلك وأنا أيضاً، وبالتالي عليّ أن آتيه بأدواته».
من أين جاءت فكرة تصوير الكليب في قرية مهجرة؟ ليست الإجابة صعبة بالنسبة إلى دلال، فالفكرة نابعة من ترابطها المقدس مع القرى المهجرة. «لا يمر أسبوع من دون أن ناخذ، زوجي وأنا، أولادنا لزيارة إحدى القرى ونعرّفهم إليها، ولذلك، من هنا ربما جاءت فكرة تصوير الكليب في قرية برعم، وخصوصاً لسهولة تنفيذ المشروع، إذ أن نصف القرية مهجر تماماً، فيما النصف الآخر عاد إليه الأهالي من القرى الفلسطينية المجاورة غير المهجرة، محاولين مرات عدّة ترتيبها وإعادة الحياة إليها، بالرغم من مضايقات الاحتلال».
إذن «يا ستي» الذي أحيا الأغنية الفلسطينية التراثية، جسداً وروحاً، هو كما تقول دلال «هدية إلى المهجرين الفلسطينيين في مختلف أماكن لجوئهم».