إلياس خوري ضدّ أمين معلوف؟ شُبّه لنا ذلك ونحن نقرأ مقالته «إدوارد سعيد: المثقف اليهودي الأخير» («القدس العربي»، 14 حزيران/ يونيو 2016). ساورتنا شكوك ونحن نتخبّط في خضمّ نصّ صارخ، مفعم بالدروس الأخلاقيّة والمراجع الفكريّة والإحالات المعرفيّة التي تبدأ عند إدوارد سعيد ولا تنتهي عند إيلان بابيه. لكن، بصراحة، لم نعرف تماماً ما إذا كان «يُدين» إطلالة زميله مطلع الشهر الحالي على المحطّة الاسرائيليّة i24. فهو لم يقل لنا رأيه بالخطوة وأبعادها وخطورتها، ولم يتوقّف عند خطر التطبيع الثقافي مع العدوّ الاسرائيلي، الآن، وفي بلد كلبنان تحديداً. لقد بدا منهمكاً في اعطائنا دروساً حول «معنى الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي بصفته صراعاً أخلاقيّاً في الدرجة الأولى» (حلو!)… وفي اعلان تمسّكه «بالمبنى الأخلاقي الذي يجعل من قضيّة فلسطين قضيّتنا السياسيّة والفكريّة والثقافيّة والأخلاقيّة». وهذا كلام مؤثر فعلاً، وإن كان لم يحدّد لنا، لا أين ولا كيف نصرّفه في الصراع الدائر في المنطقة. أما «قضيّة معلوف» فتبدو آخر همّه. كل ما قاله عن المقابلة مع الاسرائيلي إنها «بائسة». قال ذلك عند مفترق جملة، في الجزء الثاني من مقالته العتيدة. ثم واصل هروبه إلى الأمام.إلياس خوري ضدّ أمين معلوف؟ كل ما كتبه في المقالة المشار إليها أعلاه، يوحي بغير ذلك. إنّه يتماهى مع «المطبّع» ـــ في لاوعيه على الأقل، أو بفعل تقاطع المصالح وتشابه التنازلات وتلاقي الطموحات ـــ ويصبّ جام غضبه، من أوّل المقالة إلى آخرها، على منتقدي صاحب «الغونكور»، من دون تسميتهم طبعاً، وهذه التعمية التي تعقّم النقاش، لا تشرّف من يتقمّص دائماً دور «المثقف الشجاع». يكتب أن هؤلاء ليسوا إلا «حفنة قومجيين» (…) «مشغولين بالدفاع عن أبديّة الأسد وقراره إحراق سوريا وتدميرها». و«الكلام القومجي الممانع يحجب الدم السوري الذي يغطّي السماء». ألم يلاحظ الرفيق بروتس أنّه يفعل مثل كتبة الوهابيّة والربيع القطري واليمين الانعزالي، إذ يقحم الجرح السوري في النقاش، ليبرّئ أمين معلوف، ويمسح خطيئته الكبرى؟ أي صديق لسوريا هذا الذي يستعملها بيدقاً أو حجر داما في ألعابه القذرة! أي فكر وضيع هذا الذي يمسخ حملة وطنيّة رصينة لمحاسبة أمين معلوف بسبب تواطئه المعلن مع اسرائيل، فيعمل على اقناع الرأي العام أنّها مناورة لـ «حجب الدم السوري»! ثم كيف يسمح لنفسه بهذا التعميم الغوغائي والشعبوي؟ إذا كان كل مقاومي التطبيع «مع بشار»، وكل أنصار «المطبّع» أمين معلوف مع «الربيع» الفظيع الذي نرى مفاعيله يوميّاً على الأرض، ويتاجر به خوري مردداً كالببغاء شعاره الأجوف: «يسقط الاستبداد… يسقط الاستبداد… يسقط الاستبداد»، فهذا أمر مقلق يدعو حقاً إلى التفكير والتأمّل.
يرفض المناضل الأسبق الاعتراف بأن أدوات المواجهة الفعليّة مع إسرائيل ورعاتها وأتباعها وخدمها، قد تغيّرت. لأن المواجهة لم تعد أولويّته إلا في الشعار، وفي أدبيّات الحنين. ليس مستغرباً والحالة تلك، أن يلتقي بعمق مع كل الذين استماتوا ـــ من خلفيّات ومنطلقات مختلفة ـــ في الدفاع عن تطبيع أمين معلوف، منذ مقالتنا التي أطلقت القضيّة في «الأخبار» (7 حزيران/ يونيو 2016). لقد لجأ هؤلاء إلى تقنية مخابراتيّة معروفة هي أبلسة منتقدي معلوف، وقلب المعادلة ضدّهم، وتلويث سمعتهم، ووضعهم في موقع الاتهام. بهذا المعنى تبدو مرافعة إلياس خوري، دفاعاً غير مباشر عن أمين معلوف، وكلّ المطبّعين، إنّما تحت لواء «فلسطين» طبعاً. أليست تلك الطريقة التي ابتكرها صاحب «الجبل الصغير» منذ سنوات، ليتعايش مع مأزقه السياسي، ويُبقي قدماً في القضيّة التي طبعت شبابه وأدبه ومقالاته ونضاله، وبنى عليها أمجاده، ويضع قدماً أخرى في «ثورة الأرز» والمصالح الغربيّة التي تخدمها؟ هل ان أسلوب التعمية والاختزال والقادوميّات والتسطيح، سيفيده إلى الأبد في تجنّب الاسئلة الحقيقيّة؟ مشكلة إلياس خوري أنّه لا يريد أن يختار بين أبو جهاد و… جيزيل خوري؟
يبقى سؤال: لماذا شتم إلياس خوري كل الذين تعالت أصواتهم لادانة المطبّع أمين معلوف؟ لماذا جرّح بهم وتجنّى عليهم ووضعهم في سلة واحدة؟ هناك مشاغل «استراتيجيّة» أهمّ في فلسطين، يعبّر عنها الرجل في مقالته «البائسة»: الدفاع عن نفسه، وتبرير حواره إلى «هآرتس» من دون أن يذكره، والمضيّ في تلفيق موقف سياسي يعبّر، في أفضل الحالات، عن أزمة هويّة وأزمة خطاب، لكي لا نقول فصاماً فكريّاً وسياسيّاً. كم كنّا قدّرناه واحترمناه لو أنّه ردّ مباشرة على من استعاد مؤخّراً «سقطته المدوّية» في الادلاء بحديث (ولو نقدي) إلى صحافة الاحتلال قبل عامين. ليته كتب يدافع عن ذلك الموقف ويشرحه لفائدة الرأي العام. لكنه فضّل الاختباء خلف قامة إدوارد سعيد ليبرر سقطته. أوّلاً إدوارد سعيد ليس نبيّاً، وكان معرّضاً للخطأ مثل الآخرين، والحديث إلى «هآرتس» ليس أفضل مواقف هذا المثقّف الفريد الراحل (حتّى مقالة خوري تفضح هباء تلك الخطوة، في الفقرة عن آري شافيط). ثانياً هناك فرق بين مفكّر فلسطيني عالمي، لديه رسالة ومشروع فكري وقدرة على التأثير، ويشتغل على محاورة الوعي الغربي حيث تدرّس كتبه، عندما يدلي بحديث إلى «هآرتس» العام ألفين… وصحافي وكاتب لبناني ناضل في صفوف 14 آذار، وليست لديه قامة إدوارد سعيد ولا مشروعه، يدلي بحوار إلى جريدة العدوّ العام 2014، أي بعدما استحال الربيع العربي كابوساً، وفتح ثغرات فظيعة يمكن للعدو أن يتسلل منها إلى وعينا وضميرنا ووجداننا. ثالثاً: أين وقّع إلياس خوري الترجمة الأميركيّة لروايته «الوجوه البيضاء»، في نيويورك، مساء 15 نيسان (أبريل) 2010، أي قبل الكابوس العربي، وقبل «هآرتس»؟ في غاليري Pomogranate التي يملكها الفنّان الاسرائيلي عوديد هلاحمي. مسكين أمين معلوف، لم يكن يستحق كل هذه الزفّة! إلياس خوري نفسه أضاع الطريق إلى فلسطين.