روميو وجولييت يعيشان في عالم توتاليتاري جديد تفيض فيه وسائل القتل والانتحار. الغاز. موسى الحلاقة. مضارب البايسبول. حتى إن البطلين سيوفرّان عناء البحث عن سبل لفعل ذلك. النظام ديكتاتوري، سيتكفّل بالمهمّة الشاقة، إن لم يكن من طريق القتل المباشر، فعبر الظلم والتفقير والتهديد. هذه هموم تُثقل بطلي ويليام شكسبير (1564 ــ 1616)، وتبدل معاناتهما في نسختها المعاصرة التي تحاكي فترة الحكم السوفياتي لدول أوروبا الشرقية، وفق القراءة المتفردة للكوريغراف الألباني الفرنسي أنجولان بريلجوكاج (1957). بعدما زارتنا «باليه بريلجوكاج» في «مهرجانات بيت الدين» بعرضها «بياض الثلج» عام ٢٠٠٨، ثم عام 2013 في «الليالي»، يجدد المهرجان الشوفي هذه السنة الموعد مع فرقة الباليه الفرنسية المعاصرة وعرضها «روميو وجولييت» (90 د) مساء الثلاثاء 19 والأربعاء 20 تموز (يوليو)، مسجّلة أبرز المواعيد الراقصة في المهرجانات اللبنانية هذا الصيف. عام 1990، دشّن عرض «روميو وجولييت»، تجربة بريلجوكاج الفنية حين أخرجها لـ «باليه أوبرا ليون» قبل أن تخضع لتعديلات حين عادت عروضها إلى المسارح الفرنسية العام الماضي. معظم الأعمال المقتبسة عن ملحمة شكسبير (1597)، قاربت إحدى أعظم قصص الحب في التاريخ خارج سياقها الدرامي الأصلي، وألبستها قضايا وسياقات مختلفة. لكن هذا ليس توصيفاً دقيقاً لنسخة بريلجوكاج. تكاد هذه الباليه أن تفقد أي نكهة رومانسية أمام دعسات العساكر، والأجواء البوليسية التي تخيّم على العمل الذي يقترب من «1984» جورج أورويل.
تتألف السينوغرافيا من جدران وحصون وأبراج مراقبة أنجزها مؤلف الشرائط المصوّرة الفرنسي إنكي بلال
هوسه بقصّ الحكايات الخيالية مثل «الأميرة النائمة» و«البجعة السوداء» عبر حركات الجسد ظهرت في باليه «بياض الثلج» (2008) حيث قدم مقاربة معاصرة لقصّة الأخوين غريم (١٨١٢) استمدها من عالم النفس النمسوي برونو بيتلهايم. زحزح بريلجوكاج السياق التقليدي للروايات والقصص الكلاسيكية كما في «كازانوفا» (1998) التي صممها لـ «باليه أوبرا باريس»، مستلهماً سرديته الجديدة من علوم الأمراض الجنسية، وحوّل فيها قصص العشق إلى كوابيس. وفيما قدم الكوريغراف الألباني الفرنسي سرداً رمزياً ومجتزأً لبعض القصص، حافظ على السياق الدرامي المكتمل في أعمال أخرى جمعت بين الباليه والرقص الكلاسيكي والمعاصر. وكما الجودو والفنون القتالية الآسيوية، شاهدنا تأثيرات الرقص الأوروبي والأميركي الحديثين لتحمل رقصاته مزيجاً من التعبيرية الألمانية والمينيمالية الأميركية. حيث ولد وكبر في باريس، عاش بريلجوكاج حياة مزدوجة بين البيت وخارجه. والداه اللاجئان السياسيان الهاربان من الحكم التوليتاري، حافظا على اللغة الألبانية... آخر ما بقي لهما من بلدهما. ورغم الهمّ الجماعي في التمرد ومحاربة الديكتاتوريات، تشكّل «روميو وجولييت» تحية شخصية إلى بلاد والديه والتراث البلقاني. عندما كان يعمل على «روميو وجولييت»، سارع بريلجوكاج إلى إعادة قراءة «1984» ملحمة القسوة والخوف للكاتب الإنكليزي جورج أورويل الذي ترافقنا جملته «لم يعد هناك مكان آمن سوى سنتيمترات مربعة في الجمجمة» بعدما صارت في العرض «لم يعد هناك مكان آمن سوى سنتيمترات مربعة في الجسد»، على غرار مصممي الرقص الفرنسيين المعاصرين الذين جاءت لوحاتهم الراقصة والمسرحية كاستعارة عن السبل الضيقة لحالة الإنسان المعاصر. إنه عمل سياسي بامتياز يرتكز على الديكورات المذهلة لمؤلف الشرائط المصوّرة للفرنسي إنكي بلال الذي صمّم أيضاً ملابس الراقصين الـ 24. نصب بلال جدراناً وحصوناً وأبراجاً للمراقبة في مدينة تحرص على الأمن العالي، تبدو خارجة لتوها من أجواء الخيال العلمي لـ «بارباريلا» جان كلود فوري. منذ البداية، يخترق أصوات طائرة الهليكوبتر، موسيقى المؤلف الروسي السوفييتي سيرغي بروكوفييف بالعنوان نفسه («روميو وجولييت») التي ترافقنا طوال العرض. هنا لا وجود لعداوة بين أسرتي مونتاغ وكابوليت التي تحكم مسرحية الكاتب الإنكليزي قبل قرون. صراع بريلجوكاج طبقي، يترجم بمواجهة سياسية/ اجتماعية بين السلطة والمتشرّدين في مقاربة أكثر واقعية وآنية خلت منها معظم رقصات الباليه التي جسّدت تراجيديا شكسبير العاطفية. جولييت ابنة لديكتاتور، أما روميو فهو مشرّد تائه. نراه برفقة صديقيه بنفوليو ومركوشيو يواجهون منافس روميو وابن عم جوليت تيبالت. جولييت المحاطة بامرأتين بدلاً من ممرضتها الشهيرة، تلتقي بروميو في خلال موكب عسكري، حيث أجساد الرجال والنساء تحرّكها تكرارات ميكانيكية عنيفة. تتصاعد أجواء الخطر المثيرة إلى أكثر اللحظات حميمية في المسرحية. نراها على جسدي روميو وجولييت في مشهد ايروتيكي داكن في غرفة النوم، حيث يستلقي الجسدان على منصة منحدرة، وتتردد حركاتهما في أجساد أربع ثنائيات من خلف جدران شفافة في محاولة للقبض على الحرية المتوارية. علينا أن ننتظر موعد "بيت الدين" لمشاهدة عمل بريلجوكاج الصاخب ووصفته السحرية التي تجمع الرقص المعاصر، والباليه الكلاسيكي وفنون قتال «الكاراتيه»، و«الكابوكي» الياباني.