التقط فيلمٌ أميركيٌ وحيد ربما تلك اللحظة التاريخية الحرجة في تسعينات القرن الماضي، عندما مات نظام عالمي قديم ولم يولد نظام جديد وقتها، لكننا ظننا أنه ولد. هذا الفيلم كان «يوم الاستقلال» في جزئه الأول (١٩٩٦) لرولاند إميريتش.الاتحاد السوفياتي حينها كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة، وسقط جدار برلين وفرطت الكتلة الشرقية. سادت النشوة واشنطن زعيمة العالم (الحر)، فكتب منظّرها فرانسيس فوكوياما مقولته الشهيرة عن «نهاية التاريخ». صدّقنا جميعاً عندئذ أنّ النظام الرأسمالي الليبرالي قد حقق انتصاره النهائي، وأن مسيرة البشرية وإن طالت، فإنها، أكثر من أي وقت مضى، أقرب ما تكون إلى تحقق الشكل النهائي للاجتماع البشري: الإمبراطورية الأميركية القائدة لأمم الأرض، التي توحّد الكوكب وتحقق السّلام العالمي. وحث الرئيس السابق نيكسون شعب الولايات المتحدة (العظيم) على أن يكون على قدر اللحظة التاريخية والانتقال بفعالية من أجواء الحرب الباردة إلى العمل النشط على تصدير النموذج الأميركي إلى بقية العالم. لقد كانت «لحظة القطب الأوحد» إن شئتم.
في هذه الأجواء الحماسيّة، تقدم النظام الأميركي بحذرٍ نحو تولي الدّور المزعوم، لكن الثقافة الشعبيّة الأميركية التي أغواها الانتصار الشكليُّ المذهلُ على الوحش الأحمر (لم يعلم الأميركيون العاديون وقتها أن الاتحاد السوفياتي كان قرب النهاية، ديناصوراً من ورق)، كانت بحاجة إلى فيلم مثل "يوم الاستقلال" في جزئه الأول. وهكذا كان: تقول قصة الفيلم إنّه عشية يوم الاستقلال الأميركي في الرابع من تموز (يوليو)، يتعرض الكوكب لهجوم عنيف من مخلوقات فضائية عزمت على القضاء على الجنس البشري. تدمّر موجة الهجوم الأولى معظم المدن الرئيسية في العالم، كأنها القيامة، قبل أن يمتص الناجون الهجمة، فيعيدوا تجميع صفوفهم، ويشنّوا هجومهم المضاد، لينتصروا في النهاية على الغزاة الفضائيين. الناجون بالطبع هم مقاتلون أشداء ومحبوبون، يقودهم ليس أقل من الرئيس الأميركي نفسه. وهكذا عند الانتصار المجيد، يتحول الرابع من يوليو إلى عيد استقلال للكوكب كله، وتسود القيم الأميركية الجميلة العالم وليبارك الله الإمبراطورية.
شَكْل العالم قبل الغزو الفضائي كما قدمه «يوم الاستقلال» يقوم بالطبع على التنافس والصراع والانقسام وتراجع القيم التقليدية، وكذلك تولي القيادات الفاسدة المترددة شؤون العالم. الانتصار الأميركي وفق الفيلم، أعاد صياغة منظومة العلاقات العالمية في إطار بطريركية عسكرية إسبارطية وحّدت العالم، وقدّمت له نموذجاً أخلاقياً جديداً عابراً للطوائف والمنابت، قادراً على استيعاب الأبطال السود والعلماء اليهود والرؤساء الشجعان البيض معاً على صعيد واحدٍ لقيادة البشرية وحماية الكوكب من كل الغزاة.
بعد عشرين عاماً تماماً من عرض «يوم الاستقلال»، يعود المخرج الأميركي رولاند إميريتش في جزء ثانٍ، ليقدم عملاً أقل ما يقال عنه بأنّه نموذج كلاسيكي آخر للفيلم الأميركي السطحي الذي يقوم على حبكة هزيلة، وتصوّر أحادي للعالم، مع التركيز أساساً على الاستفادة من معطيات التكنولوجيا المتقدمة لتقديم خدع بصرية مذهلة، من دون رصيد درامي حقيقي.
غياب ويل سميث وكثرة الشخصيات أضرّا بالفيلم

«يوم الاستقلال» بجزئه الثاني، هو إعادة سردٍ ممل للمعالم الأساسية للقصة كما هي في الجزء الأول مع مجرد فروقات شكلية محدودة. في الوقت قبل وصول الغزاة، فإنّ نبوءة "نهاية التاريخ" كما فوكوياما قد تحققت فعلاً. هنا الولايات المتحدة تقود نظاماً عالمياً ليبرالياً ديموقراطياً، أرسى نوعاً من سلام دائم بين الأمم. لكن هذا التوازن يبدو غير قادر على الاستجابة الفعالة لتحدي غزو جديد، ويضطر الفريق القديم ذاته - الأميركي دائماً - لتولي القيادة من جديد وإنقاذ البشريّة. لكن روح التوحّد لحماية الكوكب، تبدو كثيرة التسطيح ومفتعلة في الفيلم الجديد، لا سيما أنّ المناخ الشعبي المستقطب هذه الأيام - بسبب الأجندات السياسية اليمينية الفاشلة في الغرب - يستدعي روح العزلة والابتعاد، لا روح التضامن والتعاون.
لقد تغيّر المناخ الجيوبوليتيكي العالمي بعد عشرين عاماً من «يوم الاستقلال» في جزئه الأول. سقطت نظرية نهاية التاريخ، ومعها أي إمكانية فعلية لقيام نظام أحادي القطبية يتولى إحلال السلام العالمي. تحطم ذلك الحلم الساذج في نيسان (أبريل) ٢٠٠٣ يوم سقطت بغداد. والتراكم الآن يجري في اتجاه يجعل الإمبراطورية الأميركية في صراع مع أقطاب موازية، ومن دون أي أفقٍ لتحقيق السلام العالمي المزعوم. من هنا، فإنّ تصوّر شكل العالم قبل حدوث الغزو في أجواء الجزء الأول التي كانت مبررة حينها، وهي ذاتها التي ينطلق منها الجزء الثاني، تبدو اليوم خارج سياق الحدث تماماً.
على الصعيد الفني المحض، فإنّ غياب كاريزما ويل سميث الذي كان نجم الجزء الأول عن «يوم الاستقلال 2»، أضعف العمل على نحو ملموس. كما أن كثرة الشخصيات الثانوية التي تزاحمت على العمل لم تخدم السرد، وبدت في معظمها مفتعلة وعابرة ذات بعدين لا أكثر. تقنياً، أعاد إميريتش في الجزء الأول تعريف معنى الدمار الذي يمكن أن يصيب الكوكب، فأزيلت أمامنا مدن ومعالم معروفة وأدهشنا حتى الصدمة حتى أنه سمّي «سيّد الخراب». ولذا فإنه كان في الجزء الثاني مضطراً إلى ابتداع فكرة السفينة الفضائية الهائلة ذات الجاذبية القوية القادرة حتى على سحب مدن أرضية كاملة إلى مدارها بل وإزالة نخاع الكوكب كله، لأنه بغير ذلك ربما لن تكون عنده أي أفكار جديدة عن كيف سيبدو العالم لحظة القيامة، وخصوصاً أن لحظة القيامة لم تعد وفق الفيلم بجزءيه، تعني بالضرورة نهاية الكوكب بل هي دائماً لحظة بعث جديد ودافع لتوحد البشرية وتناسي الخلافات الصغيرة بين الأمم وتسليم القيادة للشجعان زعماء الإمبراطورية الأميركية. ولتبرير مركزية النضال الأرضي ضد الغزاة في الولايات المتحدة دوماً، فإن قارة آسيا أزيلت بالكامل من الوجود في الهجوم الأول وبضربة واحدة من سفينة الغزاة، فكانت كأنها لم تكن وعادت جميع أحداث الفيلم إلى الزاوية الأميركية بوصفها العالم كله.
الحوارات أيضاً في الجزء الثاني، لم تساعد في إنقاذ العمل، فهي تبدو في معظمها سطحية، بلا معنى ولا تضيف الكثير إلى السرد الدرامي للفيلم. نهاية الفيلم تثير الرعب بالتأكيد ليس من غزو فضائي مقبل، بل من إمكان جزء ثالث من «يوم الاستقلال» كما يبدو من سياق القصة. «يوم الاستقلال» في جزئه الثاني أقرب إلى أن يكون اجتراراً تجارياً للجزء الأول. ولا ينصح به، اللهم إلا إذا احتجت إلى أن توقف عقلك لساعتين لتضيع في الخدع البصرية والصوتية لفيلم أميركي طويل آخر.

* Independence Day: Resurgence: «أمبير» (1269)، «فوكس» (01/285582)