من يحصر اهتمامه الموسيقي بالأغنية، ويفضّلها ملتزِمة، فلن تهمّه هذه المقالة. ومَن يعتقد أن العمل الموسيقي لا يكون ملتزماً إلا إذا عبّرَت عن ذلك عبارات واضحة، فقد يصاب بخيبة طفيفة ممّا سيقرأ. أما من لا يرى في الموسيقى إلاّ مصدراً للتسلية (والتسلية غير الترفيه!) فنتمنّى عليه، بمحبّة، الاكتفاء بما قرأ حتى الآن. هذه السطور لا تستهدف إطلاقاً من يرى في زياد الرحباني صاحب ”عايشة وحدا بلاك“ و/أو مصدراً ”لآخر نكتة“، كما أنها قد تزعج مَن يعتقد أن حفلةً في ”المركز الثقافي الروسي“ لا بدّ من أن تكون احتفالاً بذكرى ثورة أكتوبر.
مناسبة المقالة أنّ المؤلف الموسيقي زياد الرحباني يقدّم حفلتَين في ”المركز الثقافي الروسي“ (3 و4 حزيران/ يونيو المقبل)، حيث روسيا هي امتداد للاتحاد السوفياتي وسياسة ”آلة البيانو في كل بيت“… وحيث أبو شعبها معجَبٌ حتى الذهول بإحدى سوناتات بيتهوفن، لا بنشيد الأممية، على أهميّته ونُبْل رسالته… حيث ”ديكتاتورها“ الفولاذي قد ينفي إلى سيبيريا من يَثبُت تورّطُه في عرقلة رغبته الستالينية في الحصول على تسجيلٍ أعجبه لأحد أعمال موزار الرقيق. هذه المقالة تتناول حفلتَين موسيقيّتَين، وهاتَان الأخيرتان تتوجّهان إلى كل من يتفق مع الزعيمَين الشيوعيَّين المذكورَين أعلاه على كل شيء، بما في ذلك مقاربتهما للموسيقى، وكذلك إلى مَن لا يتفّق معهما إلا على ذلك.
نبدأ من عنوان الحدث Kiki Rosa. إنها إحالة إلى الجزء اللاتيني الاحتفالي من برنامج الأمسية. لكنّها أولاً إشارة إلى ضيفة الحدث، عازفة الساكسوفون المصرية/ المكسيكية ليتي النجّار… إنها إشارة إلى نصفها اللاتيني طبعاً. أما الأهم، فهو العنوان الفرعي لأمسيتَين: The un-mobile/un-dinner night. لنشرح قليلاً هذا العبارات. الكل يعرف أن لزياد نشاطاً موسيقياً ثابر عليه منذ السبعينيات، وهو العزف في حانات. هذا ما تفعله كل فرق الجاز وتوابعه في العالم. الجمهور الذي يحضر هذه الأمسيات بعضه تهمّه الموسيقى، والبعض الآخر تهمّه السهرة بما تتضمّنه من أكل وشرب وأحاديث… وموسيقى. هكذا هي الحال في العالم لا في لبنان فحسب، لكن ”عندنا“ تضاف فئة ثالثة إلى تلك الجيدة وتلك المقبولة… فئة مَن قد يطرق كأساً بكأس خارج الإيقاع وفي لحظة حسّاسة قبل أن يغرق في صحنه الشهيّ، أو مَن قد يطلق العنان لضحكة لا تتوافق من أي نغمةٍ معروفة في العلوم الموسيقية حتى الآن. في الواقع، هذه كلّها غرائز أو شبه ذلك، ولا يجوز كبحها. لكن ثمّة مخرَج ممتاز من هذه الأزمة، اعتمدته كل فرق الجاز، وهو نقْل النشاط، من حين لآخر، إلى المسارح. أما في ما يتعلّق بالموبايل، فلا كلام يعبّر عن حسناته التي ”افتَعَلَت بحسناتنا“.

على البرنامج أعمال خاصّة مثل «شو بحبّك» و{رمادي عا رصاصي»

من جهة ثانية، نشير إلى أن حفلتَي ”المركز الثقافي الروسي“ مختلفتان جذرياً عن حفلات زياد المرتقبة في المهرجانات المقبلة. الاستنتاج الأول هو أنْ لا تضارب بين النشاطين، والثاني هو أن زياد الرحباني هو من القلّة القادرة على تقديم نموذجين فنّيين مختلفين (هذا ولن ندخل في تفاصيل الأنماط العديدة في كل نموذج!)، والأهم أنه يقوم بالمهمّتين بمهنية المتفرّغ لأحد النموذجين، أو حتى لواحدٍ من الأنماط التي يشملانها: موسيقى كلاسيكية، جاز، فانك، سول، لاتيني، شرقي، بوب،… وعلى رأس اللائحة، النمط الأهم من كل هذه التسميات، والأبرز في ريبرتوار زياد: الموسيقى (هي الأصيل وما الأنماط سوى وكيل معتمَد لها، عند هذه الشعوب أو تلك). ثانياً، يتألف البرنامج من كلاسيكيات ريبرتوار الجاز والبوسا- نوفا والموسيقى اللاتينية وغيرها… بالإضافة إلى أعمال خاصّة لطالما تمنّينا إدراجها في الحفلات مثل أغنية «شو بحبّك» (وهي مقطوعة كلاسيكية للبيانو المنفرد، لكنّها مُرفَقَة بـ”شبه أغنية“ مع مرافقة للفرقة) و”رمادي عا رصاصي“ (التحفة العصية على التصنيف التي لا تسجيل لها إلا في فيديو ”موسيقى على قيد الحياة من بيروت“) ومقطوعة موسيقية نادرة رافقت نصوصاً ساخرة ولم تعزف في حفلة من قبل، وكذلك أغنية ”اسهار“ بنسخةٍ موسيقية وغيرها.
من الكلاسيكيات، يدخل زياد الرحباني إلى ريبرتوار فرقته أعمالاً مثل Flight to Jordan والرثائية الموجِعَة I Remember Clifford وغيرهما. أما الفرقة الموسيقية، فتضم إليه (بيانو)، ليتي النجّار (ساكسوفون وكلارينت)، مارتين لوياتو (ترومبت)، منير الخولي (غيتار)، خالد عمران (باص)، ريكاردو أبي هيلا (درامز) وأيمن زبداوي (إيقاعات).
من بين التسجيلات التي أصدرها الرحباني منذ السبعينيات، لا توجد إلاّ ”وثيقة“ واحدة لهذا الجانب من نشاطه الموسيقي، وهي شريط ”بهالشكل“ الذي حوى تسجيلاً لحفلة في جامعة الـBUC. مضت نحو ثلاثة عقود على تلك الحفلة، والـBUC باتت LAU، وإلى مسرحها يعود زياد لتقديم أمسية في العاشر من حزيران (يونيو)، وستكون، تقريباً… ”بهالشكل“ (يرجى إعادة قراءة المقالة).

* حفلة زياد الرحباني: 20:30 مساء 3 و 4 حزيران (يونيو) ـ «المركز الثقافي الروسي». 01/790212.
10 يونيو ـ مسرح جامعة الـ LAU