تقوم خلاصة نظرية «صناعة» الصورة في النظام الرأسمالي المعاصر على مبدأ بسيط جداً: أنت تريد تقديم تسلية ما، قادرةٍ على إبقاء الجمهور أمام الشاشة لأطول فترة ممكنة، ليمكن استخدام هذا الوقت في تمرير رسائل تجارية وايديولوجية معاً. المقياس الأعلى والنهائي لقيمة الأعمال في هوليوود «مصنع صورة الإمبراطورية الأعظم» هو ببساطة دخل العمل بالدولارات، وهو ــ نظرياً ــ يتناسب طردياً مع عدد المشاهدين ومدة تسمّرهم أمام الشاشات على تنوع أشكالها. شركة HBO حطمت كل الأرقام القياسية في استقطاب المشاهدين لحضور أعمالها الأخيرة عبر تقديم مستوى مرتفع من المحتوى الفكري والإبهار البصري والسمعي والتشويق الدرامي. «لعبة العروش» وحده كان ظاهرة عجيبة، تحول من خلال ستة مواسم متلاحقة إلى أكثر المسلسلات الدرامية شعبية في التاريخ، يتابعه الملايين حول العالم، كمدمنين على خليط هائل من السياسة والغموض والجمال والعنف والجنس. هكذا، كسب العقول والقلوب والعيون معاً ووصل بك إلى النقطة الذهبية للمنتج الرأسمالي الأرقى: حيث لا يمكن بعدها أن تغمض عينيك! حتى إنّ أسبوعية الـ«تايم» الأميركية عجزت عن تقديم أي حل بديل من إدمان «لعبة العروش» عندما كتبت تنصح المشاهدين بأن يقضوا الوقت بين الموسم السادس الأخير والموسم السابع المقبل في إعادة مشاهدة المواسم السابقة، أو قراءة الرواية التي يقوم على أساسها الفيلم، أو حتى إعادة مشاهدة الموسم السادس مرة أخرى.
هذا النجاح الخارق وضع HBO في موقف لا تحسد عليه، فالقصة في «لعبة العروش» على وشك الانتهاء. ورغم تفتيت الموسم الأخير إلى موسمين قصيرين لشراء مزيد من الوقت، فإن التأخير التقني في تصوير الموسم السابع، بسبب انتظار ظروف طقس موائمة لأجواء الموسم الذي يتحدث عن قدوم الشتاء، قد خلق فجوة في برمجة الشركة، ما يعني بالضرورة فجوة موازية في قدرة القناة على استقطاب المشاهدين، وبالتالي دولارات الإعلانات والاشتراكات. كان لا بد من قصة تملأ الفراغ. هذه القصة يجب أن تكون قادرة على إبقاء إثارة الجمهور على المستوى الذي وصله «لعبة العروش»، وربما ــ إذا ساعد الحظ ــ إطلاق خط جديد من السرد الدرامي يساعد في تجنّب انصراف الجمهور عن HBO لدى انفضاض مولد «لعبة العروش». «ويستوورلد» قد يكون ذلك العمل الذي قد يتفوّق حتى على «لعبة العروش». يا أولاد المحظوظة يا HBO!
«ويستوورلد» سيكون بمثابة «أوديسة مظلمة سوداء كالحة عن نقطة التحول المحتّمة في مسار التاريخ البشري: مستقبل الخطيئة البشرية وصعود الذكاء الاصطناعي»، هكذا يقول جوناثان نولان أحد مخرجي العمل الذي انتهى أخيراً من تقديم موسم خامس أخير من مسلسله النبوءة «الشخص موضع الاهتمام» Person of Interest. المخرج الآخر ليس أقل من ج. ج. أبرامز، مخرج Lost لو تذكرون. الممثلون؟ كتيبة نجوم من الدرجة الأولى ليس أقلهم أنتوني هوبكنز شخصياً!
المسلسل الذي سيُقدم في موسم واحد ــ حتى الآن ــ على عشر حلقات، هو إعادة تقديم في قراءة جديدة لفيلم خيال علمي قديم بالاسم نفسه قدّمه في ١٩٧٣ العبقري مايكل كريشتون. يومها، لقي العمل نجاحاً محدوداً ولم يصل إلى قائمة أفلام الخيال العلمي الأهم في تاريخ هوليوود، رغم أنه كان رائداً وعميقاً بشكل غير مسبوق. في الفيلم الذي يحكي قصة مستقبلية عن متنزه للترفيه عن الأثرياء في أجواء تاريخية ثلاثة، الغرب الأميركي، وأوروبا العصور الوسطى وبومبيى الرومانية القديمة، قدّم كريشتون أول نقد صريح في دراما هوليوودية لمسار التاريخ البشري في ظل تغول الشركات الكبرى، وسيطرة مفهوم تعظيم الربح، وانفجار جرعات العنف والجنس، في نقطة زمنية لتحول نوعي في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، قد تفقد البشرية ذاتها دورها في رواية سيرة التاريخ. كريشتون كأنه هيغل معكوساً: التاريخ هنا لا يأخذ مساراً تصاعدياً في بناء الحرية البشرية، بل هو في مسار تراجعي إلى النقطة التي تتولى فيها الآلات قيادة التاريخ وتزيح البشر جانباً. كان الفيلم أيضاً أول عمل في هوليوود يعتمد تقنيات التصوير الديجيتال والتلاعب بالبيكسلز، وهو سبق كل أعمال الدراما في طرح مفهوم الفيروسات الإلكترونية. كذلك فإن ثيمته كانت وراء أفلام نجحت لاحقاً («الحديقة الجوراسية»، و«تيرميناتر» وحتى بعض حلقات «سيمبسونز»). لكن ربما لم ينجح الفيلم لأنه كان سابقاً لأوانه. أما المسلسل اليوم، فيأتي في خضم الأزمة التي يخاطبها، وقد حشدت له HBO كل أدوات التألق، فأصبح نجاحه مسألة وقت، لا أكثر، في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.
مركّب الجنس في العمل سيبقى دائماً في خدمة السرد الدرامي

ملخص قصة الفيلم أنه في مستقبل قريب، يقوم صديقان بزيارة إلى ديلوس (فكّر في دبي أو لاس فيغاس) وهو متنزه للترفيه عالي التقنية يقدم لك مقابل ألف دولار في اليوم الفرصة للاندماج في عوالم تكاد تماثل الحقيقة في مراحل تاريخية شديدة التمايز. من خلال التفاعل مع مخلوقات آلية ذكية صنعت على شكل البشر، يمكنك هنا عيش أجواء العنف والقتل المجاني والترف والإباحة في غاية تطرفها في تلك العصور. يَعِدُ ديلوس زبائنه بإجازة لا تنسى، حيث يمكن أن تشعر فعلاً بفضل الروبوتات الذكيّة كأنك تقتل بسيفك أو تطلق النار على وجه أحدهم أو تمارس الحب مع فتى أو فتاة أحلامك. شعار المتنزه هنا لا قواعد أو قوانين. لا تخف من فعل كل ما تريد، فأنت لن تؤذي أحداً. هكذا يندفع الصديقان في عيش معركة قتال بأسلحة نارية حقيقية، كما في الغرب الأميركي القديم، يمكن بها حتى قتل الروبوتات للوصول إلى منتهى الشعور بنشوة القتل، في حين تكون الأسلحة مبرمجة لإطلاق النار فقط على غير البشر من خلال نظام لقراءة حرارة الأجسام. إدارة ديلوس، التي تصنع الربح من خلال بيع تصعيد المشاعر الإنسانية الدفينة ونشوات القتل والعنف والمغامرة والجنس، تواجه مشكلات تقنية وتتجنب حلها فيما يبدو توفيراً للنفقات، فتتطور إلى ما يشبه فيروساً معدياً يصيب الروبوتات ويجعلها تخرج عن السيطرة. هي لا تموت بل تقتل الزوار، وترفض محاولات التودّد الجنسي وتتصاعد الأمور إلى درجة أن الإدارة تقرر إيقاف المتنزه كله عن العمل، وتغلقه على من فيه في أجواء من الانفلات والفوضى المرعبة.
المخرجان ــ النجمان بدورهما ــ نولان وأبرامز واضحان في أنهما يريدان تفكيك القصة الأصلية للفيلم بغرض إعادة كتابة مسار تاريخ البشرية كما قد يبدو في المستقبل القريب، وفق التحولات الهائلة التي تطرحها علاقة الوعي البشري بالتكنولوجيا، وانفلاش النظام الرأسمالي وانحطاط البشرية التي تسير بقدميها نحو الهلاك. المضيفون (كما تُسمى الآلات الذكية في المسلسل) سيجدون أنّه رغم أنهم خلقوا على شاكلتنا، إلا أنه لا شيء يثير الإلهام في طريقة تفكيرنا وانشغالنا بالتوافه البائسة. ولذا فهم سيتساءلون عن جدوى أيّ بعد إنساني لشكل الحياة الذكية الجديد.
ولأن المسلسل يَعِدُ بتقديم سرد لمستقبل الخطيئة البشرية، فهو محمّل بكثافة بمشاهد قتل وعنف ودماء (داعشية)، لكن الأهم أن كمية مشاهد الجنس فيه ستكون أبعد من توقعاتنا وستتجاوز بالتأكيد ما شهدناه في «لعبة العروش»، إلى درجة أن اتحاد العاملين في صناعات السينما والتلفزيون في هوليوود أبدى اعتراضه على نص العقود التي طلب إلى الممثلين الثانويين في المسلسل توقيعها، لأنها شديدة الإباحية والتعرّي وتتطلب منهم أن يقبلوا تصوير مشاهد حميمة وصريحة تتضمن استخدامات مختلفة للأعضاء التناسلية للممثلين! لكن مركّب الجنس في العمل سيبقى دائماً في خدمة السرد الدرامي، وسيكشف عن بذاءة ما قد تفعله بنا الرأسمالية إن هي تركت لتقود مسار التاريخ.
إذن هو كابوس فكري مهول وتصعيد بصري متسارع وجرعة عنف لا نهائية وجنس مجنون. يا عشاق «لعبة العروش»، هلموا إلى «ويستوورلد»!