نيتشه كان يقول إن الأفكار تأتي مع المشي. أما شانكارا، فكان يرى أن المشي يبدّد التفكير، ولعل الفكرتين محقتان بالدرجة نفسها. الشارع بالنسبة إلى الفوتوغرافي الياباني دايدو مورياما (1938) مُطَمْئِن أكثر، فيه نكون أقل تفكيراً في أنفسنا، مكان يضعُف فيه كل شيء ويتدهور. مثل صاحب كاميرا البولارويد، صوره دائماً في متناول اليد وتمثل شكلاً سريعاً لأخذ الملاحظات. نراه مجبراً على وضع الكاميرا بينه وبين أي شيء يصادفه، كأنها تساعده في الاستيلاء على عالم لا يشعرُ فيه بالأمان. هذا النهم المفرط للعين الفوتوغرافية، يعلّمنا شيفرة بصرية جديدة، توسّع من مفاهيمنا عمّا هو جدير بالنظر وحول حقنا في المراقبة. من خلال كتابه «ألبوم صور مسرح اليابان» (1968) و«وداعاً للتصوير» (1972)، بإمكاننا أن نتحرّى بأكثر الطرق حميمية وقلقاً كيف يدِب الهرَم في الناس، وكيف يبدو الماضي القريب مستنفداً، مقتلعاً، مبدداً.النظرة إلى الواقع كغنيمة غريبة، يجب أن تُطارَد وتنصب لها الشّراك من قِبل صيّادٍ مجتهدٍ ذي كاميرا، هي التي كوّنت التصوير الفوتوغرافي منذ البداية. بتحديقه في واقع الآخرين، بفضول وانفصال واحترافية، دايدو مورياما هو نسخة مسلَّحة بكاميرا للجوال المتوحّد، مستطلعاً طائفاً في الجحيم المديني. انطباع يترسخ لدى زيارة معرضه «دايدو طوكيو» الذي نظمته "مؤسسة كارتييه للفن المعاصر" في باريس. لن نجد صعوبة في التقاط ذلك الشبق الرعوي، والنزوات، والجوع الحسي الوافر في مناخ تُعرض فيه الشخصيات كأننا أمام «فترينات» تتيح لنا استراق النظر، وإشباع رغبة التلصص والمتعة الآمنة، من دون الاشتباك المباشر مع ذلك العالم البدائي المُنفّر. يضعنا مورياما أمام لقطات صريحة تشبه تلك التي أُخذت بعدسة بول مارتن في شوارع لندن، وبعدسة آرنولد غنث في تشاينا تاون في سان فرانسيسكو، وبعدسة آتغيه في باريس المظلمة بشوارعها الرثة وحرفها البالية.
أداء حي لألحان شرقية
مع كفاح المصري، والختام
مع فرقة «كريسباند»

اكتشاف أعمال ويليم كلاين الأميركي عام 1975 وفّر لمورياما مفاتيح لغة بصرية تهدم التباين بين الجمال والقبح والأهمية والتفاهة، ليصبح منجذباً لتوثيق الأماكن الخرِبة وأضرار الحياة المدنية، حبيس هوس خاص متطرّف مثل تفضيل لويس كارول للفتيات الصغيرات أو دايان آربوس للناس مشوّهي الخلقة. فضولي ولا مبال في آن، وجد مورياما في حي الاندرغراوند شينجوكو، الديكور الأكثر فتنة، ورافقت سيرته المهنية التغيّرات المفاجئة في المستوى الاجتماعي لليابان والضرر النفسي الذي نحتاجه لبناء مجتمعات عصرية. كلنا نعيش في مجتمعات صناعية تضطر للتخلي تدريجاً عن الماضي. لكن في أقطار معينة مثل الولايات المتحدة واليابان، يكون الانفصال عن الماضي مثيراً للصدمة. وحين يأخذ التغيّر التاريخي في التسارع، يغدو الماضي نفسه، أكثر فوق واقعية من كل المواضيع، بإتاحته - كما يقول والتر بنيامين - رؤية جمال جديد، في ما هو في طريقه إلى الاختفاء.
يقذف بنا مورياما في طوكيو مشؤومة، لقطات كلوز آب لشواخص الطرقات والمحار وعشب البحر والأجنحة المتجمعة وأيادي الشغيلة كثيرة العقد. ويضع شاشات تعرض الصور بالأبيض والأسود على نحو متقطّع مثل إعلانات النيون في الطرق. صور مُكبَّرة ومنسوخة في ما يشبه الفيلم، تعيد إلى الذهن فيلم دزيغا فيرتوف «الرجل ذو الكاميرا» (1929) الذي يتحرك فيه مصور سينمائي بسرعة ورشاقة بين أحداث (أيقونات بصرية) تدعو إلى اليأس وهو في حالة لا تسمح له بالتدخّل، وفيلم كريس ماركر «لو كان عندي أربعة جمال» (1966) الذي يطرح طريقة أكثر دقة وصرامة في جمع وتكبير الصور الفوتوغرافية الساكنة. الترتيب والوقت للنظر في كل صورة كلاهما مفروضان. ولعل هذا التعاقب المفروض على الصور يفقدها الكثير من ميزتها الجوهرية ويُساوي بين معاني كل الأحداث، لكن محاولات مورياما لإيجاد مساحة من التشكيك وانعدام الثقة أملاها ظرف البلاد التي بدأت تغرق في الجنون إثر الهجوم النووي على هيروشيما وناكازاكي وصار الجميع غرباء معزولين على نحو يائس، جامدين في شخصيات وعلاقات ميكانيكية مشوّهة.
لا ننسى أن الحاجات الأخلاقية الجديدة أثناء الحرب، جعلت من التصوير الوثائقي موضوعاً كئيباً جداً، كما هو مشار إليه في مذكرة من الفوتوغرافي الأميركي روي إيمرسون سترايكر إلى العاملين تحت إشرافه عام 1942: «يجب أن يكون لدينا في الحال صور عن رجال ونساء وأطفال يظهرون كما لو أنهم يؤمنون فعلاً بالولايات المتحدة، خُذوا أناساً شجعاناً. كثير من الأعمال التي في ملفاتنا الآن تصوّر الولايات المتحدة كأنها دار لشيخ عجوز، ذلك أن الجميع كبارٌ في السن جداً على العمل وسيّئو التغذية إلى حد أنهم لا يأبهون بما حدث، نحن بحاجة على وجه الخصوص إلى رجال ونساء شباب يعملون في المصانع، ربات بيوت في مطابخهن أو في حدائقهن يقطفن الزهور، والإكثار من الأزواج، الذين يبدون مسرورين ومحترمين».
دايدو مورياما في المقابل وثّق جزءاً مهجوراً ومقموعاً من بلده، صورٌ غير فوقية وغير عاطفية تُلتقط ليس لعرض ما يجب أن يكون محطّ إعجاب، بل أيضاً لكشف ما هو بحاجة إلى أن يُجابَه، ما هو مدعاة للرثاء، ولذلك تضمنت اتصالاً أكثر ثباتاً مع التاريخ. ربما ليس الفوتوغرافي الشخص الذي يسجّل الماضي فقط، بل هو أيضاً الشخص الذي يخترعه.




الهزيمة والعقم والأمركة
من 11 أيلول (سبتمبر) إلى 14 كانون الأول (ديسمبر)، يخصص متحف le bal في باريس أول معرض حول مجلة provoke اليابانية التي مهدت لظهور الفنون الأدائية في اليابان بداية الستينيات وجمعت رواد الفوتوغرافيا الذين رفضوا التقنية التقليدية وتخلوا عن مثاليات الصورة السياحية الرصينة ليصوّروا تناقضات مجتمع ما بعد الحرب: الهزيمة والعقم ومحاكاة الحياة الأميركية، من بينهم دايدوا مورياما ويوتاكا تاكاناشي وتاكوما ناكاهيرا الذي وصف تلك الحقبة قائلاً: «كنا نسعى لاختبار قدرتنا على التقاط صور تُحرّض على التفكير النقدي. كانت هناك فكرة عن القيام بمزج ما بين السينما والتصوير والهندسة المعمارية. رأينا الرجعية والعنف في الدولة الرأسمالية بعد الاضطرابات التي حدثت في أنحاء العالم عام 1968، وكان ينبغي علينا توثيق ذلك. لكن بالنسبة لي؛ لم أقم فقط بالتقاط الصور لغرض الاستفزاز؛ بل باعتبار هذا العمل محاولة تجريبية لصياغة نمط جديد في التصوير الفوتوغرافي». وتعبيراً عن الشرخ الذي أحدثه تصالح اليابان مع الهيمنة الأميركية، تساءل المخرج شوجي تيراياما: «هل تستحق بلدي كل هذا العناء؟ هل تستحق أن أموت من أجلها وهي مثل السحلية في زجاجة الكوكاكولا؟» استخدم تيراياما في أفلامه وأعماله المسرحية التجريبية -على مسرح Tenjō Sajiki الذي قام بإنشائه- البنية الهشة للعاصمة طوكيو، التي صورها كموقع لمجمّعات التسوق، وطناً للتحديث السطحي بدلاً من إعادة البناء. في أحد مشاهد فيلمه «لعبة الغميضة»، نجد فتاة تبدو عليها ملامح الهذيان والدهشة عند هضاب صفراء بلون باهت، وهي تروح وتجيء وتدور حول وردة حمراء وجدتها في تلك الصحراء. هنا ينتقل كل الاهتمام للشيء، للزهرة، وينصرف عن الفتاة ذات الحركة القلقة.
أحلام...