بات الاستماع إلى إذاعات المنوّعات في لبنان يشبه القصاص اليومي. لا يمكن أيَّ مشوار أن يخلو من أغنية «هابطة». المصطلح هنا لا يتعلّق فقط بتدنّي المستوى الفنّي لجهة الكلمات والألحان والتوزيع والأداء، لأنّ ما نشهده في السنوات الأخيرة بات ظاهرة «عنفية» فعلية! ظاهرة «تتكامل» بطريقة أو بأخرى مع كلّ القتل والبشاعة اللذين نشهدهما من حولنا في هذا الزمن الظلامي.نسمع المغنية السورية رويدا عطية تطلب من حبيبها أن يُمعن في إيذائها، فهي لا تمانع مهما فعل: «جرحني وغمّقلي الجرح/ رَش رِش ع جرحي ملح/ والله لو تذبح قلبي ذبح/ عمري ما حس آني بأذية» (أغنية «رش رش» ــ كلمات فادي مرجان، وألحان وتوزيع علي حسّون). الطلب نفسه وجّهه قبلها اللبناني مروان الشامي إلى حبيبته: «غمرني كسّرلي ضلوعي/ ساوي اللي بدّك فيّ/ اجرحني نزّلي دموعي، وحدك بتمون عليي» (أغنية «غمرني» ــ كلمات وألحان سليم عساف، توزيع عمر صبّاغ).
بعيداً عن المازوشية الطافحة، يأخذ العنف في «كبراني براسا» (كلمات منير بو عساف، وألحان هشام بولس، وتوزيع داني حلو) للبناني ناجي أسطا طابعاً مختلفاً، يُظهر من خلاله فائض «ذكورته»، مستخدماً عبارة «الكفّ ملبّع عَ خدّا».
بالتأكيد، الأمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى، إلا أنّ أحدث الإنتاجات كانت من نصيب رائد هذه الموجة في الأغاني الحديثة: محمد إسكندر. «غلطة حكيم» (كلمات وألحان فارس إسكندر، توزيع عمر صبّاغ) هو عنوان الأغنية التي لا تزال تُبثّ بكثافة على الراديوات المحلية. «التفنّن» في الأفكار العنفية هنا واضح، مع رشّة من الذكورية الحاضرة دائماً في أغاني «أبو فارس»: «حبّك دابحلي قلبي من وريدو لوريدو/ واللي بيغلط معاكي عم يحفر قبرو بإيدو». ثم يضيف: «جرّاح لبيداويني لو ما لاقاكي فيني/ لاخطف من إيدو السكين وقطّع كل شرايني... وأهرب من المستشفى لو كانت عم تِطلع روحي/ وجبلو خصلة من شعرك يقطّبلي فيها جروحي». كلمات تعبرّ عن «حبّ دموي»، وأقل ما يُقال فيها أنّها تزيد طين العنف الذي يغزو شاشاتنا بلّة!
استعادة للصور القبائلية والأساطير التي بُني عليها الخيال النفسي لدى الإنسان الأوّل (رجاء مكّي)

لا يزال ابن مدينة الهرمل البقاعية متمسكاً بصورة «سي السيّد»، وهو مصرّ منذ عودته إلى الساحة الغنائيّة قبل سبع سنوات على التغنّي بفحولته وإعادة النساء إلى عصر العبوديّة والحريم والجهل. في الوقت الذي تُكافح فيه المرأة اللبنانية للحصول على أبسط حقوقها، خصوصاً تجريم العنف، إضافة إلى تطوّر الأدوار الاجتماعية وتحوّلها، يخرج علينا محمد اسكندر بأغانٍ تكرّس الرجعية، على شاكلة «قولي بحبني» (كلمات فارس اسكندر، وألحان سليم سلامة)، و«جمهورية قلبي» (كلمات فارس اسكندر، وألحان سليم سلامة، وتوزيع عمر صبّاغ)، و«ضد العنف» (كلمات فارس اسكندر، وألحان سليم سلامة، وتوزيع فادي جيجي) وغيرها. علماً بأنّ «ضد العنف» تضمّنت استهدافاً للمرأة والأطفال والمثليين، وعرّضت صاحبها لحملة استنكارات كبيرة، غير أنّ شيئاً لم (ولن) يدفعه إلى تغيير رأيه (الأخبار 24/8/2012). كذلك نقع على أغانٍ غارقة في الذكورية والابتذال لدى الغزل بالفتيات، يحمل لواءها فارس كرم صاحب «التنّورة» (كلمات ناجد اسكندر، وألحان سليم سلامة)، و«ريتني» (كلمات الياس شعبان، وألحان وسام الأمير)، و«لمشيلك حافي» (كلمات حسن اسماعيل، وألحان وسام الأمير)، و«عالطيّب» (كلمات أريج ضو، وألحان سليم سلامة).
الغريب أنّ هذه الأعمال تلقى إقبالاً عند الجمهور الذي يرقص على أنغامها في السهرات والحفلات. أمام هذا المشهد، نعود إلى عادات التعبير عن الحب في ثقافتنا العربية. منذ الطفولة، تعبّر الأم عن حبّها لابنها بكلمات على شاكلة «تقبرني» و«تبحشلي»، وينام وهي تندندن له بصوتها مقطعاً من أغنية فيروز «يلا تنام... يلا تنام... لادبحلك طير الحمام»، قبل أن يصبح استخدام المثل الشعبي «ضرب الحبيب زبيب» شائعاً.
في تراثنا الغنائي أعمال لفنانين كبار غنّوا العذاب والعنف الجسدي والنفسي أيضاً. مَن منّا لم يُغنّ «لا تضربني لا تضرب كسّرت الخيزرانة/ صرلي سنة وست أشهر من ضربتك وجعانة» (أغنية «بين العصر والمغرب»)؟ فهل هذا يعني أنّ العنف سمة متجذرة في ثقافتنا؟
«الأغنية في المبدأ تعبّر عن المجتمع وما هو مَعيش والوجع الداخلي للفرد»، تؤكد المحلّلة النفسية رجاء مكّي. لا تستطيع الأستاذة في الجامعة اللبنانية أن ترى في مضمون هذه الأغاني سوى «استعادة للصور القبائلية والأساطير التي بُني عليها الخيال النفسي، من بينها أسطورة أوديب».
لكن أين نحن من التغيير في ظل التحوّلات الاجتماعية، وتعزيز دور المرأة وتطوّره، واهتزاز السلطة الأبوية التي قامت عليها المجتمعات الأوّلية؟ تشدد مكّي على أنّ الناس في مجتمعاتنا «ما زالوا يقفون عند حدود طبع الإنسان الأوّل القائم على القوّة والعنف، والرغبة الكامنة في نفس الطفل الأوّل. أي لحظة التكوّن الأوّلي للثقافة والحضارة». وتشرح أنّ هذه المشاعر الأوّلية «افتراسية»، ويهدف المرء من خلالها إلى «صنع موقع لنفسه». وتوضح مكّي أنّ «تطوّر البشر لا يمرّ إلا من خلال الأنظمة والقوانين. ومع تخلخل نظام الأب اليوم، في ظل نقص الضوابط القانونية، حلّت مكانه الرغبة الأوّلية، ما يولّد دافعاً أكبر لاختراق القوانين وتكريس القانون الأساسي، أي قانون اللذة غير المنظّمة. وهي فجّة وعنيفة».
أما عن الكلام المستخدم في الأغاني للتعبير عن هذه المشاعر، فهي تدل على «عدم رغبة في رؤية الواقع. إنّها تدعو إلى الانصهار وتجاوز الموانع، ما يدلّ على لاوعي يبتعد عن القوانين الحديثة».
إذاً، لا يزال الإنسان في بلادنا اليوم يعبّر عن حبّه على أساس مشاعر الإنسان الأوّل الساعي إلى الذوبان في الآخر. في هذا السياق، تؤكد رجاء مكّي أنّ «هذا ليس حبّاً، بل مشاعر مَرَضية. الحب قائم على فهم الآخر بعيداً عن العنف، والتعاطي معه على أنّه كيان منفصل لديه رغبة خاصة به أيضاً. هناك عمل على تحويل الواقع إلى نتاج غير واعٍ قائم على مشاعر متناقضة، فيها محرّمات المجتمع وضرب لقاعدة الأب». وحسب مكيّ، بفعل تناقل هذه الأغاني وهذه الأفكار، تنتشر دعوة غير إنسانية لحثّ الإنسان على أن يكون ضحية الحب. هكذا، يُخلق لدى الأجيال الجديدة لغط قاتل».