حالة من الجدل يثيرها هذه الأيام فيلم «اشتباك» (97 دقيقة ـــ 2016 ـ إخراج محمد دياب، تأليف خالد ومحمد دياب، وبطولة نيللي كريم، طارق عبدالعزيز، هاني عادل، أحمد داش، أحمد مالك، عمرو القاضي)، الذي أشاد به الممثل الهوليوودي الأميركي توم هانكس، واختير رسمياً لافتتاح تظاهرة «نظرة ما» ضمن «مهرجان كان السينمائي» الأخير. أمر جعل الصحافي تامر أبو العرب يقول بأنّ الفيلم «لم يوثق لما حدث في الثورة، ولم يحاول حمل فكرة إنسانية تصالحية، من أراد أن يقرأها فليفعل. ومن أراد أن يعرف ماذا حدث وكيف حدث ومن قتل من، ومن يتحمل مسؤولية الدم أكثر مِن مَن، فعنده كتب التاريخ». تنحصر هذه الإشكالية بين نقد يميني يرى في الفيلم استرجاعاً لأحداث ٢٠١١ في مصر، عبر تناوله الموقف «المرتبك» الذي ساد بعد صعود السيسي إلى سدة الحكم وإزاحة محمد مرسي، والاشتباكات المتعددة بين الشرطة وفئات جماهيرية عدة كانت موالية لمحمد مرسي أو للنظام من جهة، ومن جهةٍ أخرى نقد محسوب على تيار يرى أنه من الضروري «فتح نقاش» حول الأحداث الجارية، وسط أجواء سياسية تكاد تكون مستحيلة لانتاج أي عمل نقدي.
يبدأ الفيلم بخلق حالة «ارتباك» و«شغب» بين مواطنين لديهم ثأر على الإخوان، فيقومون بمهاجمة عربة ترحيلات (السيارة التي تنقل المساجين الى المحاكم وبين السجون) تقلّ بداخلها صحافيّين، أحدهم مصري - أميركي يلعب دوره هاني عادل. سرعان ما تدخل هذه الجماهير الغوغائية الى عربة الترحيلات، وتجد نفسها عاجزة عن استيعاب أنّ الشرطة تقوم باعتقالهم هم بدورهم، وزجّهم في العربة. فلماذا تقبض الشرطة عليهم وهم موالون للنظام؟ هذا، في الحقيقة، أمر لا يتصوره كلّ من شارك في تظاهرة في مصر، اذ أنّه معروفٌ أن الشرطة تحمي الجماهير الموالية لها، ولكن هذا الموقف كان ضرورياً من أجل حبكة الفيلم، وكي ينضم الناقمون على «الإخوان» الى العربة ذاتها التي تقلّ جماهير معسكر محمد مرسي، وتبدأ هنا رسالة الفيلم: ينقلب الجوّ في العربة، بعد توتر واشتباكات، الى حالة من التعايش والتسامح والتفهّم، والمشاعر الفضفاضة الهوليوودية. ببساطة، رسالة الفيلم هي أن الصور النمطية غير صحيحة وأنّ هناك بعداً انسانياً تحت القشرة الايديولوجية.
يُبعد الصفة القمعية عن الشرطة، ويصوّرها ضحيةً لضعف الموارد

على سبيل المثال، يقوم أحد أعضاء تنظيم الإخوان في عربة الترحيلات الخانقة بتلطيف الجو عبر الغناء وإلقاء النكات، ويكشف أنه ممثلٌ في الحقيقة، ولكن الحظ لم يحالفه في الفنّ فانضم إلى جماعة الإخوان. هذا التصور للمخرج محمد دياب هو للأسف التصوّر ذاته الذي يحمله المخرج خالد يوسف، صاحب فيلم "هي فوضى"، حيث المشاكل السياسية والتطرّف هي دوماً نتيجة لتفشّي الفقر والإحباط الاجتماعي، ولا يتمّ تناول البعد القمعي للنظام صراحةً (هل للفقراء، مثلاً، خاصية تجعلهم أكثر عرضة للتطرّف من باقي الفئات؟). الفكرة نفسها تتكرّر في تقديم مجنّدي الأمن المركزي على أنهم ريفيون خاضعون، ينصاعون لأوامر ضباطهم من دون أدنى مقاومة، باستثناء عسكريين اثنين لا ينتميان الى هذه الخلفية، أحدهما مسيحي وهو شاويش العساكر (وهو يبدو أعلى رتبةً وأكثر أقدمية من باقي الجنود، لأنه يعطي الأوامر). نجح محمد دياب هنا في تصوير كيفية تعويل النظام على خلق طبقات وتفرقة داخلية عبر جعل آمر العساكر مسيحياً، يختلف عن غالبية زملائه الريفيين. هذه التراتبية، بالمناسبة، تسهّل أيضاً عمل الضابط الذي لا يكاد يبذل ربع مجهود المجندين. في مشهد استهداف الشرطة خلال أحد الاشتباكات، نرى هذا البعد في كون الضباط هم المستهدفين بدلاً من المجندين، باستثناء العسكري المجنّد الذي يحاول قيادة عربة الترحيلات في قلب الاشتباكات ليموت برصاصة مباشرةً. بدلاً من أن يقدّم محمّد دياب نقداً لإرث التجنيد، ونجاحه في إشاعة بعدٍ «تضامني» مع العسكري الذي يقمع، نجد يتبنى هذا المنظور بالكامل.
لعل جوهر الفيلم يكمن هنا تحديداً: في ظلّ الأجواء الحالية في مصر وظروفها الصعبة والقامعة، يعتبر «إنقاذ ما يمكن إنقاذه» من نقد النظام إنجازاً. بدلاً من تبني وجهة نظر ترى ماكينة الشرطة وتكوين «تروسها» القمعية، ولنا عدة دروس «واقعية» هذه السردية في انسحاب كامل لمجندي الأمن المركزي عشية ٢٨ يناير، نرى فيلماً يصور الشرطة على أنها ضحية ضعف امكانات، وتجاوزاتها عاطفية وردات فعل على مقتل زملائها. في أحد المشاهد، مثلاً، تقتل الشرطة أحد متظاهري الإخوان في لحظة «خروج عن السيطرة» بعد مقتل أحد ضباط الشرطة. وهنا رسالة خفية ولكنها خطيرة، مفادها أن النظام «ينحت» نقاده حتّى ليناسبوه، عبر فتح مجال ضيق للعمل يجعل الفنان يقبل بنصف نجاح؛ وهنا هدية كبيرة للدولة في تبني الفيلم رؤية تفسّر عنف الشرطة على أنه نتيجة ضعف إمكانيات وموارد بدلاً من كونه إصراراً على القمع. لا يمكن للمشاهد أن ينسى مشهد وقوف تشكيلين من الأمن المركزي فقط أمام جماهير غفيرة وصراخ الضابط أنه سيطلق سراح الأطفال بعربة الترحيلات والنساء «عندما تهدأ الأمور عشان عنده أولاد».
أما نهاية الفيلم، فتجري أيضاً داخل عربة الترحيلات التي لا تغادرها الكاميرا، لكي يعيش المشاهد البعُد الإنساني لعملية القبض كأنها تخلق تساوياً بين الجميع، وهي أيضاً تقنية تعمي التوجّه السياسي (مثل النظرية الليبرالية التي ترى مساواة في كون العدالة عمياء)، وطمس تام لتحركات الشرطة الخفية بعربات واتوبيسات مدنية وأحياناً عربات إسعاف. تهاجم الجماهير عربة الترحيلات، ويصدح كل معسكر بهتافاته التي تُعرِّف عنه، طمعاً بالحماية من القتل، ويكون هناك قلقٌ وترقّب وفوضى. وسط هذا «الارتباك» والعنف المفرط غير المفهوم المستمر، ينتهي الفيلم في مشهد مماثل لفيلم «انسيبشن» inception، أي بنهاية مفتوحة واستشراق تام مروّجاً للصورة النمطية عن الجماهير العربية الغوغائية التي تسيل الدماء من دون سبب لأن هذا السلوك جزءٌ من طبيعتها. إنّها الصورة ذاتها الموجودة في ذهن النظام، عندما قال الدكتور النفسي أحمد عكاشة، أحد أعضاء المجلس الاستشاري العلمي لرئاسة الجمهورية: «نحن في محنة أخلاقية وهي السبب في تأخرنا… أغلبية الشعب صارت تعاني من عصبية وغضب».