(إلى جيرار خاتشريان هنا. إلى داريو روح الذهب هناك)اليوم، يوم الأرض السوداء. اليوم، يوم الحزن. جاء رضوان حمزة كطلق ناري. مضى كطلق ناري. خفيفاً جاء. خفيفاً رحل. لا شيء في جعبته سوى الغفران والأحزان الدائرة على الثبات والسقوط. سوف تنقص اللحظات، بعد الرحيل، لحظة. سوف يضحي الحزن لحظتين، نراوح بينهما أمام الخيالات الأخيرة، لصبي بقي صبياً عند خرائط بيروت القديمة. ذلك أن المدينة هيأته لتلقيها، هو ابن اللحظات العليا في الجنوب. رضوان، الواعي، العقلاني، ذو النظرات السلوكية، لم يُعنَ في حياته القصيرة، إلا بالواقع المحسوس. هكذا وجد أن مقوِّم الحياة الأولى التوافق. هكذا أثبت المقتضى هذا، بكل ما له علاقة بثقافته، ذات القيم التأصلية. للغة عنده طابع مقدس. حوَّل ذلك إلى دين ودَين، ما دفعه إلى التحفظ على الثقافة السائدة بصالح «ثقافة الحرب الأهلية». الأخيرة ثقافة لغات، لا ثقافة وسيطة تتوسط بين اللغات. ثقافة خصب وتخصيب. نطّ الفتى فوق الثقافة الوسيطة، ثقافة التوافق، كأمر مسلَّم بِه في تلك الأيام العظيمة. تلك الأيام المجيدة في لبنان. لا شيء عنده إلا الانضواء باللغة الإنسانية، الهائلة، بعيداً من التصورات الجامدة. إثر ذلك، جهد لإزالة سوء التفاهمات بين روحه وذاته، من طريق الاستيعاب، ثم من طريق تغليب الشك على الذهنية. أعترف بأنني لم أنتبه إلى رضوان أولاً إلا كخصم هائج. لم يَعِ قسوته تتزايد على طرقات البحث عن حضور، عن دور، في سائر لبنان والمشرق العربي، في الإذاعة والسينما والتلفزيون والشعر. حضوره نوع من بيان. هكذا أراده. غدا ربيب منطقة زقاق البلاط، إعلاناً طيباً. غير أنه كلما زاد من نشر صوره بين الأحبة والأصدقاء، اختزل حضوره بالبحث عن الزوايا في وطن الجدات القاتلات. لا أهمية للمصدر، عند من تكلم على مدى 50 سنة وأكثر بأطراف شفتيه. عند من ضحك في كل لقاء، ضحكة واحدة، على المسطرة. ضحكة بطول واحد. ضحكة بعرض واحد. لا زيادة ولا نقصان. ضحكة على موازير التوافق. ضحكة أشبه بكتابة أبيات من شعر المتنبي، حين دوَّنها على جدران بين العائلة في زقاق البلاط.
افتخر رضوان بغابة حياته الوحشية، المرسومة بين منطقة زقاق البلاط ومنطقة رأس النبع. لم يزدرِ لحظة أو رجلاً أو امرأة أو ولداً، وهو يبحث عن بستانه في المدينة ذات البنايات العالية والأبراج البحرية، على شاطئ المتوسط. وجد إمبراطوريته الأولى في «نزهة ريفية غير مرخص بها» ليعقوب الشدراوي. مذّاك أنصت إلى كل حركة من حركات المخرج الغائب، بعيداً من أي عائق متخيل. أصبح الشدراوي بوصلته. لم يكفّ الرجل عن ذلك، لم يكفّ الرجل عن جنونه، حتى في أيامه الأخيرة. مات يعقوب الشدراوي بعدما أصيب بسرطان الرئة. مات رضوان حمزة بعدما أصيب بسرطان الرئة. قاده خياله إلى الاشتغال الفوري على سرطان الرئة، بعدما أصيب به صديقه ومعلمه في المسرح وفي معهد الفنون الجميلة. تطابق محتدم. وجد رضوان قصره في بيت يعقوب الشدراوي. وجد كلماته غير الزائفة في مسرحه. وُجِد كثيرون في حقل «نزهة ريفية». وجد رضوان بينهم. غادر كثيرون. بقي رضوان. أحب المساحة، حين لم يأنس إلى الاسم . ما أحب رضوان اسمه كثيراً. دعا رفيق علي أحمد إلى مناداته بمروان. لا غزو هنا. هنا، ظرف رضوان. هنا، فكاهته، تمرده، ميلانه إلى مصارف الكلام العادية، لا المعاجم. مروان أو رضوان. الاثنان رفيق ولايات السرور في بلاد الكآبات. الاثنان رفيق ولايات الحزن ببلاد اللعب على الحالات. تعلم رضوان اللازمة، بين الأصدقاء. تعلم اللازمة مع الشدراوي ملك المسرح والبحث وهواء الإذاعة، إذاعة «صوت الشعب». لم يرتهن رضوان للشدراوي، إذ وجد في الشدراوي يديه وعينيه وقلبه. لم يعظم الأمور، بعدما اشتغل معه في «نزهته» وفي «الطرطور» و«بلا لعب يا ولاد». جنون لا أزمة. هكذا جدد رضوان أو مروان نفسه، بعيداً من العولمة واقتصاد السوق المتوحش والعلاقات الآكلة العلاقات. قدم «رؤية» مع أحمد علي الزين، رفيقه الأثير. قدم «الرسولة» لأنسي الحاج، و«مصرع دونكيشوت» لمحمد العبدالله، بصوت خافت، حميم، كصوت طاغور، حبيبه وحبيب الملايين في الشعر والحياة والقيم. هذا رجل نطاط، يقول البعض. هذا رجل غير معقول، يقول البعض. غير أن اللامعقول هو المعقول، عند الرجل النحيل، التارك قميصه، كالخيمة على فاكهة الجسد. هيكل لاعظمي، منذ أن اكتشف خفة الجسد بهواء الطفولة.
تشعّب حضوره
في الإذاعة والسينما والتلفزيون والشعر

هذا غريب من غرباء المدينة. كلنا غرباء في هذه المدينة، بجوعها الكبير إلى الموت والحياة في آن، حيث الأرض لجة أبدية، والسماء بلا قبة، والبحر أبيض متوسط، بوجهه المنعكس على جباه البحَّارة الأولين والآخرين بعد الأولين. لم يسقط الرفيق رضوان من السماء. سرق ظله من ظلال جدران محشودة بصور الشهداء والكليشيهات السياسية، كقمر لا يكتمل إلا بعد أن يأكل شكل يومه شكل يومه الآخر. زهري اللون، زهري الحضور، يضحك مفتراً من تعب يوناني قديم. ثمة أكداس من التعب في حياة هذا الشقي، اللاتقي، رافع الجسور بين البشر بالتوافق. جسَّر العلاقات بين البشر في «نقابة العاملين في الإعلام المرئي والمسموع» بالتوافق. رئيس توافق ووفاق. جسَّر العلاقات بين المتنافرين في نقابة ممثلي المسرح والإذاعة والسينما، بالصبر والخبرة والحنكة والتوافق والوفاق. أمين سر النقابة، إسفنجة صدامات المغنين والفاجرين والساهين، في كل البقاع. الأرض الموطوءة بالنار، طرَّاها رضوان حمزة بماء حياته، الأقرب من نوم السمك. حلم بأن ينطق الآخرون باسمه. حقُّ الجميع. نطّ بالتجارب، كما لو أنه يبرطم، بعد سهرة ماجنة، بعيداً من ميكانيكية البرطمة. حلم بالمسرح كما حلم بالأم والأب. وجد في المسرح إله الفضول. وجد الكبش الذهبي في المسرح. وجد مقره البابوي في كل مسرح وُجِد، بعيداً من جبب القساوسة والمشايخ. لعب في «الجيب السري» لسهام ناصر. كدَّ في محترف المنارة مع رئيف كرم وعادل فاخوري. صلى في فرقة «السندباد». بسط حضوره كمجرى في المسرح/ الفارس النبيل. لم يتبطل في الإذاعة، لم يترك حضوره الرخي، إلا في بث يومي مع «بيروت ٨٢ / ٨٣»، «إسمع يا رضا»، والكثير من الإرسالات المجددة. مدير البرامج في «صوت الشعب»، وجد في الصوت الجديد، تحليقة الحرية الجديدة. اشتغل في السينما. «غزل البنات» مع جوسلين صعب. «الجنوبي الثائر» مع رضا ميسر. اشتغل في التلفزيون، لا بوصف التلفزيون نجمة. بوصف التلفزيون قارباً على بحر من تراب. اشتغل في كل شيء، بحيث بدا أنه لم يشتغل بشيء. أصدر ديواناً وحيداً «غفوتي عارية». ذهب بالشعر من الغفوة العارية إلى الغفوة العارية. مجدٌ لا يتحقق كثيراً. لن يصدق رضوان أنه مات. لأنه ضد الموت بحركة عمله المكوكية. مات، غير أن الموت لن يُدجِّن هذا الصبي، ابن رئيس مصلحة الجباة في بلدية بيروت. في جمجمته الدقيقة، الكثير مما لم يتحقق. لفُّه بملاءة الموت، لا يعني أنه مات. شيء أشبه بنشوء اللؤلؤ. ما هو محجوب في يوم رضوان الأخير، أن رضوان الملقح بالجنون الخفيض، توضأ البارحة بأربعة ليترات من الدم، وبجلطتين. تبَّل جسده بكتابة عهد جديد. نشفان الجسد. الجسد كبير الخونة في بلاط الحياة، المتجعدة بالموت. استذئاب الموت على رضوان، هزيمة للموت. نقر رضوان على قيثارة السرير، كيرقة، تدري بأنها لن تحيا لأكثر من يوم، بعد تحولها إلى فراشة. كابش الضوء الأخير، على تفاصيل مسلماته القليلة، ثم طار كقطن مندوف، كريش حبور، على توطئة موسيقية هائجة، كهياجه الشعري المكتوم. اليوم، بدت الموسيقى الكلاسيكية المبثوثة من إذاعة «صوت الشعب» أكثر حزناً من كل الموسيقات الجنائزية. رضوان الآن على شفتي الغياب الرطبتين. هذا فصل عجيب من فصول الحياة العجيبة. هناك سوف يطفر من فرع إلى آخر. هناك سوف يسقسق ويعقب، على ما فاته خلال الموت.