عشر سنوات هي المدة التي تفصل باكورة الشاعر الفلسطيني أنس العيلة «مع فارق بسيط» (٢٠٠٦) عن مجموعته الجديدة «عناقات متأخرة» التي صدرت أخيراً بلغة مزدوجة الفرنسية والعربية عن «دار لارماتان» الباريسية. إذن هي عناقات متأخرة فعلاً، كان يحول بينها وبين الشاعر سنون طويلة من الغربة والمقارعات الأكاديمية. سنوات طويلة في فرنسا كانت كفيلة بجعله فرنكوفونياً، ستغيره كثيراً، وستلقي ظلالها على نصوصه الجديدة، لكن من دون المساس بالشعر الذي عثرنا عليه في مجموعته الأولى. في «عناقات متأخرة» التي كتب مقدمتها الشاعر الفرنسي فرانسي كومب، وكتب على غلافها الخلفي الشاعر الفرنسي فيليب تانسولا؛ نكاد نعثر على المواضيع القديمة ذاتها: عوالم الحب المفقود والوحدة والزمن ومآلاته ذاتها. كلها عناصر ما زالت رئيسية في نصوصه، لكننا سنعثر هذه المرة على غيوم المهجر الملبدة وسمائها الرمادية، التي تلقي بالميلانكوليا والوحدة على معظم نصوص المجموعة، حيث تنسحب الألوان وتتشوه الابتسامات: «كان علي أن أتفقد ملامحي، كلما فقد وجه الأرض لوناً جديداً، والتشبث بابتسامة مشوهة/ في هذا المدى المحتشد/ بالأجساد المائلة/ والعناقات المتأخرة». في هذه الأجواء، تتكثف الوحدة في النصوص، ويستحيل الحب إلى حدث لم يحدث أبداً: «أضعتك قبل أن يحدث شيء يشبه الحب/ وقبل أن يحدث يوماً أن نفترق». وحتى إن حدث، فهو ليس إلا وسيلة للطمأنينة لا أكثر ولا أقل: «قد يأتي الحب من المكان الذي يأتي منه الملل/ وجه يعبر مرآتنا ولا يترك أثراً أو فراغاً أو صدى/ ثم فجأة نتشبث به/ نضع صورته قرب السرير/ حيث يمنحنا مع مرور الوقت/ ما يصعب على حب جارف إعطاءه: الطمأنينة».
سماء المهجر
الرمادية انعكست ميلانكوليا ووحدة على معظم النصوص

ولدى الشاعر القتلة هم بشر مثلنا أيضاً، في كل شيء تقريباً: «يصعدون الدرج بخفة/ ويحملون الأطفال على أكتافهم/ ويحتفلون بالأعياد على طريقتنا/ ويصغون إلى الموسيقى.. ويزرعون أشجاراً حولهم/ ولهم أصدقاء كسالى/ كرماء وثرثارون/ يلجؤون إليهم في الشتاءات الطويلة». لكن «جريمتهم الوحيدة أنهم يحرمونا من كل ذلك/ حتى وإن كنا جديرين بكل هذا الألم». أما نحن فنشبههم كثيراً إلى درجة يبالغ فيها الخالق: «نحن كذلك لنا مخالب/ لكن شذبناها مع الوقت/ ودهنّاها بالمناكير/ رغباتنا متشابهة/ صرخاتنا أيضاً/ وأجسادنا التي تحوي العناصر ذاتها/ تصلح أعضاء للتبادل/ هذه شاعرية مفرطة من خالق الكون».
ويحضر الزمن الذي يفتك بنا بكامل ثقله وعافيته غير المرئية: «كان أنفك يطول أمامك/ عيناك تتسعان/ ووجهك تتباعد ملامحه/ كأناك بالتدريج/ تصبح شخصاً آخر.. وفي كل مرة تقص أظافرك/ كنت تتساءل متى طالت/ في غفلة منك». ويخص الشاعر الصداع في جزء كبير من المجموعة، إذ يصبح معادلاً لأشد الكوارث التي تهز العالم: «من المخجل حقاً/ أن تنشغل عن آلام الشعوب/ بأوجاع جانبية/ لن تبثها نشرات الأخبار/ ولن يكترث لها التاريخ/ في مسيرته الخالدة». ونكتشف أن أوجاع الشاعر تلك مصدرها أعداء غير متوقعين: «أعداؤك يجلسون معك على مائدة الطعام: النبيذ الأبيض والخبز ومشتقات الحليب.. من المؤسف أن يصبح الخبز عدواً لك.. ومن المؤسف أن تؤلمك قطعة جبن/ وأن يصبح الأكل مغامرة قد تكلفك نهاراً كاملاً من الألم».
في «عناقات متأخرة»، لا تتدفق اللغة، بل هي راكدة، وقد نشعر لوهلة بركاكة يبدو أن الشاعر (مواليد قلقيلية ـ1975) يعيها بل يوظفها في تشكيل نصوصه. قد نشعر بلغة باهتة أنهكتها سنوات طوال من الإقامة في فرنسا والغرق في تفاصيل العيش والحياة الأكاديمية التي «تصفعه صفحات كتبها/ وكلماتها المرصوفة كالأحجار». سنشعر لوهلة أن هذا شعر مترجم، وأن الشاعر بات يفكر بالفرنسية ويكتب بلغته الأم، ولهذا قد تكون النصوص الفرنسية المقابلة للعربية في الكتاب مشعَّة أكثر، لكننا سنشعر أيضاً أن هذه اللغة الباهتة غير المتكلفة والبعيدة عن البهرجة والبلاغة والفذلكة، هي أداة الشاعر لكتابة نصوص عن حياة وعلاقات وزمن باهت أصلاً، عن لون سماء مزعج، وصوت مطر مزعج، عن العناقات الخانقة، وصفات الناس المتعِبة، وعن الابتسامات التي تتحول إلى عذاب منهك. مجموعة أنس العيلة تعانقنا أخيراً، لا بد من أن تترك على أجسادنا آثاراً بعد أن ننفك من ضغط هذا العناق.