«نكات للمسلحين» (دار رياض الريس) هو آخر إصدارات الشاعر والمترجم مازن معروف (1978). كتابه ليس شعراً هذه المرة، بل قصص قصيرة. معروف المولود في بيروت، والمنتمي لعائلة فلسطينية لاجئة من الجليل، عرفناه من خلال دواوينه الثلاثة «كأن حزننا خبز»، و«الكاميرا لا تلتقط العصافير»، و«ملاك على حبل غسيل»، كما ترجماته الروائية والشعرية ومقالاته الثقافية الموزعة بين عدد من الصحف. عن هذه النقلة من الشعر إلى القصة القصيرة، يقول معروف إنه كان يشعر في كل مرة يكتب فيها قصيدة، بأن شبح القصة القصيرة واقف إلى جواره. وعندما كان ينتهي من الكتابة، كان يجد أن قصيدته فيها بالفعل تركيب قصصي نافر بطريقة ما.
تلك القصائد، يعتبرها كإشارات المرور ــ لكن بالشعر ــ لشكل سردي ماكر لن ينغمس فيه كلياً إلا بعدما أصبح مقيماً بشكل دائم في آيسلندا. عن تأثير إقامته هناك، يقول «الجزيرة القطبية استثار كل ما فيها عزلتي. وعالم السكينة ذاك، السحري والهادئ الذي أوقع في حبائله أدباء تحمسوا له امثال جول فيرن، ترانسترومر، لوكليزيو، وبورخيس، لم يكن له - وللأسف ربما - تلك السلطة على تحويل انتباهي. تراجع ذلك العالم قليلاً إلى الخلف، لأجد نفسي منفرداً في منازلة وجهاً لوجه مع الذاكرة، كما لو أننا ملاكمان. عندما تلاكم ذاكرتَك، فإنك تسمع احتجاج كل المقيمين فيها. في تلك اللحظة ستكون مزعجاً بحق. لكن، أنت الوحيد الذي ستلاكم وأنت الوحيد الذي سيشعر بالألم».
بالنسبة إليه، هناك دوماً قسط من الذاكرة يستخدم كطاقة للكتابة ولا تكون مادة الكتابة نفسها.

عندما تلاكم ذاكرتَك، فإنك تسمع احتجاج كل المقيمين فيها
يقول: «أن تكون فلسطينياً حاملاً لذاكرة بيروتية في لبنان، ليس على الإطلاق مثل أن تكون فلسطينياً حاملاً لذاكرة بيروتية في آيسلندا. في بلد بعيد ثقافياً وتاريخياً كآيسلندا مثلاً، تصبح الذاكرة لكَ وحدك فقط. فسيحة بقدر ما هي موحشة. ذاكرة تخصك أنتَ فقط. لن تعثر على شخص واحد يمكن أن يكون قد اختبر ولو جزءاً بسيطاً منها. حتى الأماكن لن تستطيع تقاسم معها أي شيء».
في كتابه الجديد، يعمل معروف على تحويل الواقع الواقعي إلى فانتازيا ومادة للمفارقة. عن هذا الموقف الاستنكاري نوعاً ما من الواقع، يعلّق معروف «أصبح الواقع هو المأثور في الأدب، والمصدر الأكثر إلحاحاً في وعينا الإبداعي. ولا أرى أن هذا علامة جيدة حين يتعلق الأمر بما يجب على المخيلة فعله. الواقع، وبالتحديد السياسي منه، يفرض نفسه اليوم كعقوبة على المخيلة». لكن حتى في هذا الواقع الفانتازي في القصص، الحرب موجودة.
يعلق معروف: «الحرب لا تأخذ في هذه القصص بعداً تراجيدياً بالمعنى التقليدي للكلمة، فالأهوال الكلاسيكية المعروفة أو المتوقعة، لا تتجسد فيها. إنها حرب مدفوعة إلى الخلف. إنها خلفية الخلفية إذا صح القول. مجرّدة من أثرها الكبير. أتعامل معها كمجرد تحوّل اجتماعي يسحب تغييراً في نمط الحياة ومتطلباتها واحتياجاتها وأسلوبها. بما يشبه تنكُّراً لهذه الحرب». أثر هذه الحرب، لن يظهر في القصص تماماً إلا عبر المعوقات اليومية والنسبية التي قد تنتصب فجأة في وجه الفرد. «تحاول شخصيات القصص، وبكل ما أوتيت من حيل، أن تثبِّت وجودها المهدَّد، كما لو أنها تريد سحب أحلامها التي تشبه حشرات تضيء عندما تكون خائفة، من جيبة هذه الحرب، ومضغها».
لكن الكاتب لا يسمي مكان الحرب صراحة. إنها حرب لائقة لكل الظروف والأزمنة. يقول في هذا الإطار «الحروب التي نعايشها اليوم ليست أمراً طارئاً، ولا يجب أن ننظر إلى أنفسنا على أننا استثناء قياساً بسكان الأزمنة السابقة. لطالما كانت الحروب نشاطاً إنسانياً اشتركت فيه ثقافات عديدة، وبالتالي فإن البشرية، على ما يبدو، لا يمكنها أن تعيش خارج هذا النشاط الغريب. يبقى الأمر للكاتب في كيفية معالجته أدبياً لهذا النشاط».
وعن أسلوبه المتخفف، يعلِّق «السرد لدينا مريض بالبلاغة. وفي لغة لم تشهداً تطويراً منذ قرنين تقريباً، تصبح هذه البلاغة عائقاً. في قصصي حاولت أن أعمل من جديد على السرد. الأمر يشبه وحشاً آلياً عملاقاً يريد التهام حديقة الشاي الصغيرة في منزلك. أنتَ لا تستطيع أن تحطّمه كلياً. لذلك، فإن تفعله هو أنك تركب على كتفيه، بجسمك الصغير جداً، وتقوده إلى البيت، بل وتجلسه مقابلك إلى طاولة الكتابة، ثم تجعله يذوق الشاي مغلياً ولطيفاً من الحديقة التي أراد التهامها».
كل قصة مكتوبة على الورق، هي بالنسبة إلى معروف، مجرد احتمال واحد من آلاف الاحتمالات الأخرى التي بموجبها كان يمكن أن تحدث الأمور بطريقة أخرى. «القصة هي انحياز للاحتمال الوحيد الذي يعنينا حقاً»، يقول معتقداً أن القصة موجودة، بل كل القصص التي سوف تكتب موجودة، وأن الكتابة ليست إلا النشاط الذي نعثر به، عليها.