يصرخ الكورال بحماسٍ يتضاعف: لن نستكين، لن نستكين، لن نستكين. إنه «نشيد العودة»، عودة اللاجئين السوريين، إلى جحيم الحرب. جميع حقوق النشيد محفوظة للرابطة المارونية التي أطلقته في مهرجانٍ حضره الوزير جبران باسيل، الذي حيا المناسبة، بإنسانيته المعهودة، وركّز كالعادة، بلا كلل أو ملل، على أهمية «عودة» السوريين إلى بلادهم. قلوب السوريين لن تحتمل كل هذا الحب، كما لم تحتمله قلوب الفلسطينيين من قبلهم، ونحن الآن تجاوزنا ذكرى صبرا وشاتيلا الرابعة والثلاثين بأيامٍ قليلة. بعد كل شيء، يمكننا كلبنانيين، أن نرفع رؤوسنا عالياً. لقد منح الفلسطينيون حق العمل، وحق السكن بكرامة، وحق التعليم، وحق الطبابة، إلخ. لا تصدقوا ذلك. ولن يحظى السوريون بشيء من هذا، ولا اللبنانيون، إن كان لديكم أي أمل. الرابطة المارونية تقول «أجدادنا دفعوا ثمة الحرية، الأرض لنا والسما سماؤنا، أولادنا أحفادنا، لن نرضى إلا أن نعيش بيننا، لن نكون مشردين». يا لهذه اللغة «السعيد العقلية» الساحرة. خلاصة كل شيء أن الرابطة المارونية، تريد للسوريين «العودة»، وتريدها للفلسطينيين، بطبيعة الحال، ولكل من هو ليس لبنانياً، لم لا؟ فليذهب الجميع من هنا، هذه هي الخلاصة. ولا علاقة لذلك بكون مار مارون سورياً في الأساس، هذه مزحة من مزحات الفايسبوك. إنها مزحة خفيفة، ليست كالمزاح الثقيل في الكليب الثوري للرابط الماروني، الذي يفرط في التركيز على الأطفال وعلى محنتهم وعلى استعطافنا واستعطاف الصخور، كل ذلك من أجل أن يعودوا إلى الحرب. طبعاً من الناحية الاجتماعية هذا مفكك وظاهر، فالإنسانية تقضي بتأمين الحياة الكريمة لللاجئ، لا بالدعوة إلى طرده، ولو بلطافة وأناقة وسماجة.
نشيد «العودة» حاول بأسلوب رديء أنسنة الشعار القواتي القديم «السوري عدوّك»

في أي حال، هناك حقيقة يصعب هضمها من «جماعة الرايخ اللبناني»، ومفادها أن ثمة ما حصل بعد اتفاق الطائف والجميع يعرفونه ويتحدثون عنه لكنهم يتجاهلونه. هناك نهب وفساد وسرقة في الدولة اللبنانية على مدار عقدين من الزمن، وهناك سيطرة للمصارف وللهيئات الاقتصادية على مصائر اللبنانيين وعلى حيواتهم. هناك أزمة نفايات تأكل شوارعهم وستأكل وجوههم وهم يرسمون عليها ابتسامات مؤيدة لهذا الزعيم وذاك، ابتسامات مؤيدة لطوائفهم، وطوائف مؤيدة لنفاياتهم. هناك كهرباء بالتقسيط ومياه نهرية ملوثة وطرقات أشبه بكمائن لسالكيها. هناك الكثير من الزفت قبل الانتخابات، ولم يعد هناك انتخابات، فاللاجئون السوريون مددوا لأنفسهم؟ طبعاً نقصد النواب الكرام، المشرعين الطيّبين. هناك أنابيب عملاقة للصرف الصحي تمزرب خيراتها على شواطئ بيروت مفخرة البلاد العظيمة والشاهدة على تحولات العاصمة. فلنقل ما تبقى من شواطئ بيروت، فالزيتونة أكلها التوسع الرأسمالي، والدالية تفسد اللوحة الأرستقراطية المنشودة لمدينة بيروت. أما الرملة البيضا، فلها حصتها أيضاً من الصرف الصحي. وطبعاً كل هذا بسبب اللاجئين السوريين، المسؤولين أيضاً عن الهدر في القطاع المالي وعن الكسارات وعن ثروة النائب فؤاد عبد الباسط السنيورة، وعن تكاليف عرس نجل النائب غازي العريضي، وعن رحلات الوزير جبران باسيل الرياضية لمشاهدة مباريات كرة القدم بغاية تقديم صورة حضارية عن لبنان من دون أي شك. وكي لا ننسى، إنهم مسؤولون عن سفرات الرئيس (السابق) ميشال سليمان الترفيهية، وعن الفراغ الرئاسي الآن. واللاجئون السوريون مسؤولون عن أزمة شركات سعد الدين الحريري وإفلاسها وعن السِر الدفين في مجلس الجنوب ومجلس الإنماء والإعمار وصندوق المهجرّين وسائر الدكاكين. إنهم مسؤولون عن كل شيء ويجب أن يعودوا. بشكلٍ عام ومن دون فلسفة في الاقتصاد، يمكن الاكتفاء بالرجوع إلى أرشيف الصحف (ليس جميعها طبعاً)، وإلى أبحاثٍ كثيرة وبعضها ما زال يصدر، لمعرفة حجم الفساد في لبنان، الذي لا علاقة لللاجئين السوريين به. وقد يقول واحد من أولئك الحريصين إنه من الناحية المنهجية، لا علاقة لهذه الأزمات بالطبيعة الديموغرافية للبلاد، وأن السوريين قوة تشكّل تغييراً في سوق العمل. لكن، أين سوق العمل في الأساس ومن يسيطر عليه؟ موضوعنا هو النشيد. والدعوة من الرابطة المارونية في نشيدها المؤلف على طريقة كورال الجيش الأحمر منتصف الثلاثينيات الفائتة، كما سيقال: «إنسانية».
إليكم بعض الحقائق الأخرى.
العمال السوريون بنوا هذه البلاد بعد اتفاق الطائف بسواعدهم، رغم أن جميع اللبنانيين يعتقدون، بل ظلوا يفرطون في الاعتقاد، وفق ما ظهر بعد موجة 14 آذار 2005 العنفية ضدّ السوريين الموجودين في لبنان، أن جميع هؤلاء ينتمون إلى فروع الاستخبارات السورية. وهذا قبل 2011 بكثير نسبياً. نتحدث عن علاقة طويلة بين اللبنانيين والسوريين، ازدهرت في خطابات بشير الجميّل، وفي شعارٍ قواتي شهير انتشر لفترة على جدران الحرب وما بعدها بقليل، يقول: «اعرف عدوك، السوري عدوّك». أحياناً يكون افتراض «حسن النية» صعباً حقاً. الرابطة المارونية، لا تصنع هنا نشيداً إنسانياً، يهدف إلى مساعدة اللاجئين السوريين على العودة، إنما تحاول بأسلوب رديء أنسنة الشعار القواتي القديم. تحاول طردهم مع ابتسامات، ويمكن أن توزع الحلوى عليهم، تعرفون الكرم اللبناني والمازة والعرق والكبة النية.
وبما أن النشيد عن «العودة»، يجب أن نتحدث عن «العودة» دائماً. وعن هذا يمكن إضافة حقيقة أشد مرارة للفريق «الزينوفوبي» (يعاني من رهاب الأجانب)، لن تحب الرابطة المارونية التعرف إليها، وكذلك الوزير جبران باسيل، المهتم كثيراً بنقاء العرق اللبناني، وكان حاضراً أثناء إطلاق النشيد. إنها مزيج من الحقيقة والخيال المباح في آنٍ، بحيث أنّه لا يمكننا تخيّل لبنان، فعلاً، ليومٍ واحد، بلا عمال سوريين (وهذا ما سأله الزميل وسام سعادة في ستاتوس على فايسبوك). بالفعل، ماذا لو أعلن هؤلاء عن توقفهم عن العمل ليومٍ واحد، أو امتد إضرابهم لأكثر من ذلك؟ ماذا سيفعل أصحاب المصالح التجارية والصناعية والمقاولون؟ ماذا لو أضرب السوريون يوماً واحداً؟