عندما نكون أمام أحكام قاطعة، تعيد صياغة وعي اجتماعي وإعلامي، تبرز عندها حاجة ماسة إلى التشريح والتفكيك كالقول إنّ البيولوجيا الجسدية غير ثابتة، وإنّ الجنس يتغيّر عبر المكان والزمان، وقد ربط دوماً بالتصنيف الاجتماعي بطريقة غير منطقية. عندما ندخل الى النظام الجندري بوصفه موزعاً للأدوار بين الرجل والمرأة، وخالقاً بذلك علاقة ضدية ولكن تكاملية فيما بينهما، تنشأ عن ذلك علاقة قوة من الرجل بسبب عوامل عدة أفرزها المجتمع والدين والقوانين وحتى الإعلام. عندما يتداخل الطب مع البحث النسوي، تخرج عنهما خلاصات تعيد تصويب العديد من الأحكام التي رسخت فقط لخدمة الذهنية الذكورية... كل هذه المشهدية، الأكاديمية تحديداً، تعيد رسم خريطة جديدة في مفهوم الجندر والجنسانية. هذه المشهدية قدمتها الباحثة والصحافية لين هاشم في ورشة عمل نظمتّها أخيراً Fe-male في لبنان حول «الجندر والإعلام»، وحشدت مجموعة من الصحافيين في حلقة تفاعلية في ما بينهم. هاشم المتعمقة في الدراسات الجندرية، أعادت من منظورها الأكاديمي تقديم مفاهيم حديثة للجندر ولمختلف الالتباسات التي نغرق عادةً فيها من دون محاولة تفكيكها.في الكثير من الأحيان، يصنع الإعلام الصور النمطية، معززاً أدواراً اجتماعية سلطوية، وحامياً للجناة، وناهشاً كذلك للضحايا، بخاصة النساء. هذا كان موضوع الصحافية والروائية سحر مندور في اليوم التالي من الورشة. في البداية، سردت مندور قصة دخولها عالم الصحافة ومناصرتها القضايا الحقوقية من باب الجامعة و«اليسار» عبر «السفير» والراحل جوزيف سماحة، لتتحول مقاربة هذه القضايا من باب الحريات الشخصية وضرورة إرساء العدالة الى تفكيك النظام الذكوري الذي تعمل معه، والتعرّف إلى مفاهيم أخرى غير محصورة فقط بالإطار العام، بل تمسّ مباشرة الحلقة الأضعف: المرأة وباقي الفئات المهمشة.
شهدت السنوات الأخيرة ترسيخ خطاب حقوقي مدني في الإعلام

أضاءت الصحافية اللبنانية على الشق الإعلامي المتعلق بالقضايا الحقوقية عبر تفكيك حالتين تناولهما الإعلام اللبناني: قضية سينما «بلازا» (2012)، التي كانت مبحثها الأساسي في رسالتها عن «التغيرّ المحتمل في تناول وسائل الإعلام السائدة للجنسانية في لبنان» (جامعة أوكسفورد)، إلى جانب تحليل قضية الفتاة المغتصبة في طرابلس وكيفية تعاطي الإعلام معها.
لا شك في أنّ عام 2012 كان محطة أساسية في المشهدية اللبنانية، إذ شهد قضية إخضاع 36 شخصاً للفحوص الشرجية بعدما وشى بهم إعلام mtv وتحديداً جو معلوف في سينما «بلازا» بدعوى «الحفاظ على الأخلاقيات العامة» ضمن مشهد جديد لم نعهده من قبل. فنّدت مندور هذه المشهدية التي بدأت تراكمية مع المجتمع المدني، وانتقلت الى منصات المواقع الاجتماعية التي بات تتمتع بسلطة محاسبة، وصولاً الى الإعلام التقليدي وتحديداً lbci التي تبنت الخطاب المدني مع دخول خالد صاغية الى مطبخ تحرير أخبارها. هنا، تخبرنا مندور عن تقاطع هذا الخطاب مع مصلحة رئيس مجلس إدارة المحطة بيار ضاهر في زيادة نسبة المشاهدين للقناة. إذاً، تلاقت المصالح وخرجت مقدمة «جمهورية العار» التي سرعان ما أضحت حالة عامة رائجة. وفق مندور، تشابكت جهود ونضالات الصحافة المكتوبة مع السوشال ميديا، ومع المرئي كذلك، ليبرز هذا التغيير في المشهد الإعلامي السائد، وتضطر قناة المر مثلاً، لتغيير خطابها في أقل من 24 ساعة من رهاب للمثلية الى مناصرة قضية المثليين! لاحقاً، ترك معلوف المحطة بسبب تبنيه خطاباً مناهضاً لرهاب المثلية في ملفّ ملهى «غوست» في الدكوانة على سبيل المثال، مما تعارض يومها مع مصالح رئيس البلدية المفتاح الانتخابي لآل المرّ!
هذا التغيير الذي جاء في لحظة جمود سياسي في لبنان، وإبان الخروج من «سكرة الربيع العربي»، لم يكن ظرفياً بحسب مندور، بل تراكمياً لكن ضمن سقف «مصالح النظام القائم» وخطوطه الحمر.
هكذا، تمظهر خطاب حقوقي مدني في الإعلام، انسحب على الصحافيين الأفراد أيضاً، الذين اضطر عدد منهم الى ركوب الموجة، ولبس ثوب الحداثوية الحقوقية، في حين أنّهم يمارسون خلاف ذلك في حياتهم وأذهانهم. سلّطت مندور الضوء هنا على علاقة الفرد/ الصحافي وعلى المسؤولية العامة التي يتولاها، خلال توجهه إلى الرأي العام، وأيضاً على ضرورة محاسبة ذاته كي يحلل ويفكك دوافعه لممارسة خلاف ما يظهر.
في قضية الفتاة التي تعرضت لاغتصاب جماعي في طرابلس، لم يول الإعلام الاهتمام سوى بأجزاء منها بغرض الإثارة فقط. لعلّ السؤال الأبرز هنا يتعلق بسبب توقّف الإعلام عن مواكبة هذه القضية وتحويلها من قضية رأي عام الى شأن شخصي. طرحت مندور هذه الإشكالية، لتفكك المنظومة التي يعمل بها الإعلام، بعدما ظهرت جوانب أخرى من القضية سرعان ما عمل على طمسها، كقضايا الفقر والظروف العائلية والنفسية.
في الخلاصة، قامت ورشة العمل الأولى لـ Fe-male، بالتعاون مع الصحافيين والناشطين وحتى المدربات، بإعادة إنتاج خلفية أكاديمية عن الجندر والجنسانية، مع التشديد على أهمية التزوّد بالأخلاقيات المهنية. وهو ما يمهّد لاحقاً لمقاربات مهنية يتولاها أفراد يتمتعون بالحساسية الكافية لتغطية المواضيع ذات الصلة، ولصناعة إعلام مهني رصين بعيد عن الإثارة والاستغلال المبتذلين.