يصعب تخيُّل اسم آخر يليق بهذه المتمردة العاشقة للفن والوطن والحرّية. كل شيء في نضال الأشقر يدلّ على شخصيّتها المتفردة: حركات جسدها، تعابير وجهها، صوتها، وتفاصيل حياتها المهنية الممتدة منذ أكثر من نصف قرن. إنّها مسكونة بالموهبة والعزيمة والمقاومة، وفيها الكثير من القوّة وخفة الظل والذكاء والإيمان بالمبادئ غير القابلة للمساومة...قد يحار المرء في العوامل التي كوّنت هذا المزيج المتناقض والجميل في آنٍ، لكنّ العودة إلى طفولة هذه الفنانة الرائدة تبسّط المسألة. في قرية ديك المحدي (جبل لبنان)، وُلدت «الست نضال» في الأربعينيات. الظروف الاستثنائية التي عاشتها، نحتت شخصيّتها. الأحداث «الدرامية» التي رافقتها منذ بداية حياتها «زرعت في داخلي حبّاً عميقاً للمسرح». كيف لا، وهي ابنة السياسي والقيادي في «الحزب السوري القومي الاجتماعي» أسد الأشقر (1908 ــ 1986) ورؤوفة خوري، الشديدة الجمال والصلابة التي دعمت زوجها في مسيرته النضالية الطويلة.
في كنف هذا الثنائي، عاش الأطفال الأربعة حياةً «مختلفة» عن أترابهم. في المنزل «مغامرات ومطاردات دائمة، اعتدناها من دون أن نعي طبيعتها أو طبيعة عمل والدنا، إلا أنّني شعرت أنّه يقوم بأمر مهم. فهو تارة مسجون وتارة أخرى فار أو ملاحق، ووالدتي تتبعه من مكان إلى آخر». كلام تقوله نضال الأشقر بحماسة وفخر أثناء استقبالنا في مكتبها في «مسرح المدينة» وسط الزحمة التي تسبق انطلاق الاحتفالية بالعشرية الثانية لتأسيسه يوم الجمعة المقبل.
شكّلت المدرسة العلمانية التي اختارها أسد الأشقر لتعليمها محطة رئيسة في تبلور شخصية نضال وترسيخ ما اكتسبته من خصائص بين عائلتها الصغيرة. في «كلية البنات الأهلية» التي أسّستها المناضلة النسوية وداد المقدسي قرطاس، زاد هامش الحرية وشعرت نضال بأنّ «شخصيّتها صارت أكثر قوّة واستقلالية. شعرت بأنّني أستطيع التعبير عن رأيي كما أشاء، وهذا أسعد والدي». في هذه المدرسة اللاطائفية، درّستها أسماء بارزة مثل سلمى قرطاس وإميلي نصر الله وندى سلمان ووداد دمشقية التي عرّفتها إلى شكسبير، قبل أن تبدأ محاولتها في الكتابة المسرحية. محاولات سرعان ما تُرجمت إلى أعمال ناقدة وجريئة على مسرح المدرسة. هذا ليس كل شيء، فبوادر تميّزها في إلقاء الشعر برزت في «كلية البنات الأهلية» أيضاً ولم يكن عمرها قد تجاوز العشر، إذ ألقت للمرّة الأولى قصيدة «آلا غارسون» بحضور صاحبها نزار قباني. والأهم أنّ الأشقر اكتسبت في أروقة هذه المؤسسة العريقة خاصية الانفتاح على الآخر: «في المدرسة التقيت أشخاصاً من فلسطين والأردن والعراق وسوريا... تشرّبت فكرة الاستقلال أكثر وتعرّفت إلى القضية الفلسطينية. حتى أنّني رأيت مرحلة اغتيال أنطون سعادة وما بعدها من دون أن أعي التفاصيل».
مع اقتراب سنوات الدراسة إلى نهايتها، شعرت مخرجة مسرحية «3 نسوان طوال» برغبة بـ «المغادرة وإنجاز أمر مختلف. أردت التعبير عن نفسي بطريقة مختلفة. أردت أن أمزج بين الفن والسياسة بأسلوبي الخاص». هكذا، أقنعت والدها بالذهاب إلى بريطانيا لدراسة المسرح. في 1960، التحقت بـ «الأكاديمية الملكية للفنون الدرامية» (RADA)، تزامناً مع انقلاب القوميين الذي سُجن والدها على أثره.
أربع سنوات أمضتها في لندن تعلّمت خلالها أصول العمل المسرحي ودخلت مرحلة الاحتراف. خلال هذه الفترة، كانت تزور لبنان صيفاً وتقدّم مسرحيات في ديك المحدي تطبّق خلالها ما تعلّمته في عاصمة الضباب. قبل العودة النهائية إلى لبنان، مرّت بندوة ضمن مهرجان «حمامات» التونسي حيث تعرّفت إلى بيتر بروك ويان كوت و«أم المسرح الحديث» جوان ليتلوود التي درّبتها على تطويع جسمها لتصبح قادرة على تقديم أي شخصية.
بعد العودة إلى بيروت ارتبط اسمها بالكثير من المسرحيات، فيما بدأت لائحة الأعمال مع روجيه عسّاف من «الآنسة جولي» التي عرّبها الراحل أنسي الحاج، إضافة إلى باكورتها الإخراجيّة «المفتش العام» عن نص لغوغول مع رضا كبريت. مرحلة مفصلية في حياتها المهنية وفي مسيرة المسرح اللبناني الحديث تمثلّت بتأسيسها «محترف بيروت للمسرح» مع عسّاف عام 1968: «اختير الاسم تيّمناً بتجربة ليتلوود في Theatre Workshop». جذب المحترف أنظار النقاد والشعراء والصحافيين، وشكّل مختبراً فكرياً وسياسياً. في السنة التالية، حان موعد «مجدلون» التي أحدثت مواجهة غير مسبوقة مع الرقابة، لا سيّما أنّها تناولت عمل الفدائيين الفلسطينيين، وصوّبت سهامها على فساد النظام اللبناني. الخطاب السياسي الجريء أكمل في محطات عدّة، من بينها «كارت بلانش» (1970 ــ نص عصام محفوظ) و«أنتيغون» التي أخرجها فؤاد نعيم عام 1973. هي السنة نفسها التي تزوّج فيها نعيم والأشقر. بعد اندلاع الحرب بعام واحد، قرّر الزوجان السفر إلى الأردن الذي أطلّت نضال عبره على العالم العربي: «لم أكن أريد الذهاب إلى أوروبا لأنّني فضّلت البقاء قريبة من بلدي». في عمّان، تعرّفت إلى عدد كبير من الفنانين وشاركت في مهرجانات عربية، ما حثّها على التفكير في تأسيس فرقة «الممثلون العرب» مع المسرحي المغربي الراحل الطيب الصديقي الذي أنجرت تحت إدارته «ألف ليلة وليلة في سوق عكاظ» (1985): «هذه الفرقة هي الامتداد العربي لـ «محترف بيروت للمسرح». نتيجة هذه التجربة، اكتشفت أنّ الوحدة العربية صعبة التحقق». ليس مستغرباً أن تكون السياسة ركناً أساسياً في أعمال الأشقر، لأنّ الفن «التزام ومقاومة. لطالما كان المسرح منذ نشأته سياسياً، والفن يجب أن يكون دائماً في سبيل القضية. فكيف يمكن أن نصوّر لبنان سويسرا الشرق في وجود إسرائيل؟».
شهد عام 1992 عودة الأشقر مع أولادها من قبرص حيث أمضت 5 سنوات، قبل أن تنجز «الحلبة» (كتابة بول شاوول، وإخراج فؤاد نعيم)، لتُقدم بعد عامين على خطوة مهنية مفصلية بافتتاح «مسرح المدينة». لا يزال هذا الفضاء البيروتي الذي انتقل من كليمنصو إلى السارولا منصة وحضناً وملاذاً للشباب المصّر على «إنارة بيروت رغم كلّ القرف»!