هذا الفنان الأنيق كان يحلم بأشياء بسيطة. لكن قرن العراق عاصف، يبدأ من حرب ليدخل في انقلاب عسكري، ومن حكم ديكتاتوري إلى حكم ثيوقراطي. في كل الأحوال، وشيئاً فشيئاً، تتهاوى قلاع المدنية لمصلحة موجات التخلف، فيغيب المسرح، وإذ يغيب «أبو الفنون»، فإن الفنون كلها تنسحب.لكن يوسف العاني لم ينسحب. لقد توارى خجلاً فقط. وهو توارٍ شاركه فيه فنانون كانوا لسنة قريبة يجتهدون ما أمكنهم، فينحتون من جمر العذاب عروضهم المسرحية. ما الذي حصل بعد 2003؟ لم يحصل شيء سوى انهيار المدينة من جذرها. هل كانت المدينة هشّة؟ هل كانت أحلام يوسف العاني، ورهطه، مستحيلة؟ لا ندري بالضبط، ولكننا نعرف أن أحلام المؤسّسين، والعاني من أوائلهم، لم تكن أكثر من نشيد حرّ من أجل شعب سعيد ومتنور.
ويوسف العاني يختلف عن غيره من روّاد الفن في العراق؛ إذ كان أكثرهم حضوراً ونجومية. غيابه عن المسارح وشاشات التلفزيون ممثلاً، لم يغيّبه عن ذاكرة الناس. لقد ظلّ متواصلاً مع المسرح لحوالى سبعة عقود بصفة ممثل، كاتب، ناقد، متابع. رصيده الفني الطويل يبرّر غيابه مثلما يبرر حضوره في ذاكرة الشعب. فنه الملتزم، المعبر عن الناس بمختلف طبقاتهم. اللهجة البغدادية، التي اندثرت اليوم، وهي تتهادى من بين شفتيه، إطلالاته البرامجية التلفزيونية ضيفاً، وكذلك حرصه المفرط على حضور المهرجانات المسرحية في بغداد ومتابعة أغلب عروضها وندواتها النقدية، كل ذلك وأكثر يقدمه دائماً بوصفه راعياً، أكثر من أي تعبير آخر. هي رعاية الأب الذي يرى أمامه ما زرع وقد بدأ يكبر، ويكبر.
قيمة الفنان الحقيقية في أي مجتمع تكمن في قدرته على أن يكون الشاهد الأوحد، مثلما عليه أن يظل «الصانع الأمهر». ولقد كان العاني شاهداً على قرن دامٍ، مليء بالأحلام والانتكاسات. كان واقفاً على قدميه في كل المراحل. لغو السياسة لم يؤثر فيه، والأمراض الناجمة أو المتفرعة من هذا اللغو هي الأخرى كانت تخاف الاقتراب منه. لم يبدّل جلده. كان يسارياً حتى وهو يتجرع كأس المرار في ظل حكم يميني يستجدي من الفنان صوته. ميزة يوسف العاني في أنه عصيّ على التصنيف الساذج الذي برع عراقيو اليوم في نثره على رؤوس أقرانهم. هو يوسف العاني فقط. الفنان. الممثل. الكاتب. الناقد. الحاضر الأبدي. وعندما يغيب مثل هذا الأنموذج، فإن البلاد تخسر أيقونة صعبة التعويض، بل إن في هذا الفقد علامة قاسية على ما تعانيه البلاد أصلاً من علل.
تعامل يوسف العاني مع أغلب مخرجي المسرح العراقي، وكان من أبرز شركائه في الحلم كل من الأستاذ سامي عبد الحميد، والأستاذ الراحل قاسم محمد. قدم هؤلاء مجتمعين ما أصبح صعباً تجاوزه بالنسبة إلى ذاكرة الأجيال في المسرح، كما في السينما والتلفزيون. يمكن القول عن الثلاثة إنّهم أرادوا أن يقدموا فناً يمكن أن يكون ممثلاً لضمير الشعب. تسلحوا بمعرفة أكاديمية، وخبرات عملية، وكانت أفكارهم متقاربة إلى حد كبير. وعلى سبيل الاستدراك، أذكر أن الأستاذ سامي عبد الحميد جلس على الرصيف، أمام بناية المسرح الوطني وسط بغداد، وبدأ ينحب وهو يرى جنازة رفيقه قاسم محمد محمولة على الأكتاف في عام 2011. ترى، كيف حال المعلم اليوم وهو يتلقى نبأ رحيل الأستاذ العاني، رفيق دربه الطويل؟ لقد أنجز الرجلان الكثير للمسرح الشعبي في العراق، كما أنهما، وإبراهيم جلال وقاسم محمد وخليل شوقي وجعفر السعدي وبدري حسون فريد، عملوا في الظرف الأصعب، عندما كان الفن مغامرة أخلاقية في زمن ملتبس ومكبل بالقيود.
تركت يوسف العاني في عمان بساق مكسورة عام 2013. في عمان نفسها، كنا نجلس لساعات نتحدث في شؤون شتى. لكن في هذه المرة، شعرت بأن اليأس بدأ يتسرب إليه، وهو الشغوف بالحياة. كنت مخطئاً. ذلك أنه سرعان ما شد الرحال إلى بغداد. انتكست صحته هناك، فأدخل إلى «مستشفى الراهبات». أخبرني أنه كان يود البقاء في بغداد برفقة ابنته الوحيدة. لم يستطع. عاد إلى عمان، وفيها أدخل أكثر من مرة إلى المستشفى. كانت صحته تتراجع. وكنت عاجزاً عن تحمل فكرة غيابه النهائي. أصعب الواجبات أن تكتب في رحيل المعلم الذي أحببت. سلام عليك أيها الأستاذ الطيب.

* كاتب عراقي مقيم في سيدني