تعرضت الذاكرة العراقية لعقود طويلة من التخريب والهدم، وقد طالها ما طالها من إمحاء وتشويه بسبب الحروب والسياسة التي أفقدتها الكثير من قوتها ووهجها. ويعد الفن من أكثر المفاصل تأثراً بفعل هذا التدمير، نظراً إلى أن تلك الأعمال الفنية هي وثائق بحد ذاتها تشير إلى تاريخها ووعي مجتمعها، وبسبب ما تعرضت له المتاحف من سرقات وتدمير وإهمال الدولة في توثيق وحفظ الإرث البصري. كان النزيف الثقافي يشكل واحداً من أخطر ما سيعانيه تاريخنا الفني والإنساني، إذ أن بعض الفنانين لا نجد لهم اليوم ما يُذكر من تجاربهم الشخصية. وعليه فإن غياب الوثيقة سيؤسس لغياب الثقافة وحركتها وتاريخها، وقدرتنا على مراجعتها ودراستها. روح الثقافة ذاكرتها وقوتها التي تمنحها الحياة. وبالتالي، فإنها قوة تاريخية تأخذ فاعليتها إثر الزمن وتراكماته. ويشكل المعرض الاستعادي للفنان ضياء العزاوي، بمثابة خطوة غاية في الأهمية بالنسبة إلى الفن العربي لأسباب كثيرة، منها مكانة الفنان في تاريخ الفن العربي والعراقي. إذ يعد واحداً من مؤسسي المشهد الحداثوي في الفن العربي، بل يشكل مزاجاً مختلفاً يتصف بتأصيل الصورة داخل البناء المعرفي. عمل كثيراً على توظيف واستعارة الأدب والكتاب وقيمه، كما يعد واحداً من مؤسّسي كتاب الفنان في الثقافة العربية، فضلاً عن التنويعات التي اشتغل عليها ضمن مسيرته الفنية الحافلة باللون، وتجسيداته المتعددة، والشكل وغنائيته، وانضباطه وتبسيطيته، بين تشخيص مرة وتجريد مرة أخرى. بل إن عمله امتد إلى تقنيات مختلفة وصولاً إلى استعارة الكراسي والسجاد وتوظيفهما في إنتاج أعمال فنية خالصة، فما تتصف به تجربته من تحولات مهمة بحاجة لأن توضع بشكل متجاور لإدراك مدى غناها على مستوى الوعي بالصورة، ومن ثم القدرة على المقارنة والإدراك، وفهم النسق العام لتجربة الفنان ووعيه، واستيعاب كل جزء ضمن ذلك النسق. هذا إضافة إلى دوره كأحد مؤسسي الفن العربي المعاصر. أن يقام المعرض تحت إشراف الفنان نفسه خطوة مهمة في الاحتفاء بمنجز كبير، وإعادة فهم تفصيلات ما أنتجه عبر عقود، ليس بوصفه إرثاً فقط وإنما أيضاً في كونه مشهداً وجسداً ثقافياً حياً قابلاً للتفاعل والتكثيف والضغط والاستيعاب والتوثيق، فالتاريخ الثقافي ــ برغم أهميته ـ هش وقابل للتزوير، لا سيما إذا كان تاريخاً فنياً. تنظيم معرض من هذا النوع لفنان على شاكلة العزاوي، يعد تطميناً ثقافياً وحماية لمنجز إنساني غزير بإشراف مبدعه الفنان نفسه. بالتالي فهو يمثل وثيقة نقية لا لبس فيها، ناهيك عن كونه نشاطاً منتجاً بفعل حضور الفنان وقدرتنا على استحداث الأسئلة إزاء تاريخ طويل يحفل بالمغايرة والتنويع، مع ضرورة التوقف عند قيمة أن يكون المعرض في أحد المتاحف العربية الذي أصبح اليوم أحد أهم المراكز الثقافية في المنطقة.
* فنان عراقي مقيم في عمان