التحولات التي طرأت على مجمل إنجاز ضياء العزاوي منذ أواسط الستينيات، تكشف عن جملة من التقنيات والرؤى للفن بشكل عام والجمال بشكل خاص. الفنان يستند أصلاً إلى ثقافة بصرية ومعرفية كبيرة، حيث ثقافته ذات الجذور الرافدينية جعلته يستمد طاقته الجمالية للأشكال من بئر عميق. وسنوات اشتغاله في المتحف العراقي واطلاعهِ على الكثير من اللقى والتماثيل والأعمال الأثرية المهمة للعراق القديم، كلها أكسبته خبرة بصرية وروحية كبيرة، يضاف إليها اطلاعه وعيشه وعمله منذ بداية السبعينيات في بريطانيا، وامتلاكه ما يمكن تسميته بالثقافة الإنسانية الشاملة والعابرة للمحيط المحلي والجغرافي.إقامة معرض استعادي شامل لضياء العزاوي، فرصة مهمة للاطلاع على العديد من النتاجات الإبداعية وآلية إخراجها، فالقيمة المهمة هنا هي في التوصلات الإبداعية للأعمال، لأنه من الفنانين العراقيين الذين أحدثوا نقلة نوعية على صعيد الشكل أو التكوين منذ خمسة عقود. بعد مرحلة جيل الرواد وجماعة بغداد للفن الحديث، حصلت انتقالة مهمة في جيل الستينيات، ضمن إطار كيفية الرؤية للشكل واستخدام الأساليب الجديدة للكشف عن النظرة المعاصرة للفن الحديث، ومحاولة نقل المشهد التشكيلي العراقي من المحلية إلى العالمية.
مجمل هذه التحولات بدأت مع استخدامه للرموز والأشكال التراثية العراقية والحرف، مروراً باستخدامه للأسطورة والحكايات الشعبية، وصولاً إلى تجاربه الأخيرة في استخدام الأشكال المجردة ذات التأثير البصري. جمالية العمل الفني لدى العزاوي مرتبطة بالتجربة وكيفية منح الأشكال أكبر طاقة ممكنة في التأثير البصري والروحي، لأن ثقافته المعرفية مكنته من التوصل إلى نتائج مهمة في أغلب أعماله المنجزة سواء المتعلقة منها باللوحة أو المنحوتة أو الكتب المرسومة والمستمدة من قصائد لشعراء عراقيين أو عرب.
إن تجربته في الدفاتر المرسومة Art book، أكسبت أعماله انتقاله مهمة في مفهوم الرؤية للأبعاد، فالمنحى الجمالي البصري هنا يرتبط في كيفية تحويل الخامات والأبعاد إلى ما يشبه الموسيقى اللونية، لتحصل مغايرة في البعد الثابت للوحة ضمن مفهوم الطول والعرض. لذا أصبحت الرؤية هنا تكتسب نوعاً من الشمول ذي علاقة ببعدها الكبير والإنساني، فتراه يلوّن النحت وينشئ تكوينات خشبية بأبعاد كبيرة وبطريقة تحقق أكبر قدر من النشوة البصرية والروحية من خلال معايشتها مع الفضاء والمحيط. العناصر لديه خرجت من محدوديتها على السطح التصويري لتتخذ هيئة أخرى في الكتل والمساحات النحتية التي يمكن أن نراها من زوايا مختلفة. إنّه نوع من التزاوج الجميل بين الروحية البصرية لكل من النحت والرسم.
اهتمامه الكبير بالشعر منذ بدايته الأولى، حوّل أعماله إلى قصائد ملونة حتى لو كتبت بعض الأبيات أو كلمات منها على أعماله، إلا أن المحصلة النهائية هي جمالية العمل بصرياً، فالشعر والمنطوق الأبجدي يتحول في أعماله إلى رؤية بصرية مستقلة.
إن التناسق اللوني والخطي لأشكاله نابع من روحية عالية. لذا تفصح سطوحه عن إنشاءات رصينة. من خلال استخدامه للون الأسود ودرجاته أو في كيفية تحريك فضاءاته بخطوط ملونة، تتشكل بالمجمل عوالم بصرية تشبع العين والروح. ضياء العزاوي معماري في تكويناته، انه يتابع جزئيات عمله وطرقه الخفية ليذيبها بوحدة تجمع ظاهر العمل وباطنه، أبعاده محسوبة بالحدس وليس بالعقل فقط، فبالرغم من وجود رؤية تصميمية لأشكاله، إلا إنها تسبح في فضاء حر، وهذا أمر طبيعي لفنان أكمل سنواته الخمسين في مواجهة السطح التصويري ومشكلة الإبداع، الحرية هنا لها صلة بالعمر والتجربة الطويلة والخبرة والطلاقة الخلاقة التي تكسب الفنان مرونة الحركة والمناورة مدعمة بطاقة روحية، بنحو جعلت توصلاتهِ الجمالية في مجمل أعماله، تحمل نوعاً من الحنين لجذوره الأولى، ربما الإيماء أو الإشارة من بعيد لأوجاع وطن أو أناشيد لونية تكشف عن أنين خفي. لعلها صور بديلة لذاكرة وطن ومكان وتاريخ يضاف لها وعي متراكم لمشكلة الحياة والموت، كل هذه القوى أسهمت في هذا الانجاز الكبير.
المعرض الاستعادي للفنان ضياء العزاوي في الدوحة، استحقاق حضاري وثقافي وإنساني بعد كل هذه السنين الطوال في خوض غمار الفن والإبداع، خاصة أنّه يقام في زمن ووقت تعاني فيه الثقافة العربية من مشكلة كبيرة أمام تحديات وردات ضخمة ولّدها العقل المغلق والتطرف الديني وثقافة الكراهية، ربما يكون هذا المعرض أشبه بإعادة البوصلة لمركب الجمال في الحياة وتعزيز لقيم الإنسان في وسط ثقافي وحضاري شامل وكبير.

فنّان وأكاديمي عراقي