لعلّ الذريعة الأبرز لدى غالبية القنوات في سقوطها المدّوي في الإبتذال وخرق الأخلاقيات الإعلامية، استحصالها على أعلى نسب مشاهدة (رايتينغ)، فيجري اللجوء إلى أبشع أنواع الممارسات، مع اللعب على وتر الإثارة وتخريب الذائقة العامة. مع هذا الهاجس الذي بات يتفوّق على ما عداه، تسير أغلب البرامج التلفزيونية، مغيّبة نوعية أخرى يمكن العمل عليها وتسييدها للشاشة.تجربة برنامج «شارعنا» (إعداد وتقديم مايا مجذوب، وإخراج فيروز المصري) على «تلفزيون لبنان» (كل خميس 21:00) الذي انطلق في نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي، يمكن تعميمها على بقية القنوات كنموذج جيّد في التقديم والإعداد. البرنامج الشبابي الأسبوعي تتولّاه مايا مجذوب، صاحبة فيلم «تلفزيون وائع»، ويعدّ تجربة تلفزيونية متينة. الوثائقي النقدي الذي شرّح حالة الإعلام المرئي في لبنان وتوزّعه بين الطوائف، لقي صدى إيجابياً في الأوساط المعنية، ونالت صاحبته تنويهات وجوائز عدّة. مع قلّة الإمكانات المادية ونسبة المشاهدة على الشاشة الرسمية، إستطاعت مجذوب تخطّي العقبات وصناعة خطّ يمزج بين الروح الشبابية والمادة الجادة.
تتحلّى مجذوب بطلّة محبّبة وبثقافة عالية، والأهم أنّها تُجيد تقديم مادتها ببراعة. ضمن استديو صغير ومتواضع، حاول «شارعنا» محاكاة الشوارع اللبنانية، وخصوصاً لجهة فنّ الغرافيتي. في إستهلالية الحلقة الأولى التي تناولت قضية الإحباط عند الشباب، وضعت المقدّمة الخطوط العريضة للبرنامج بنقل هموم الشباب، الذين باتوا يعيشون في ظروف قاهرة والذين كانوا في طليعة من نزلوا إلى الشارع للمطالبة بحقوقهم. تقصّد «شارعنا» طلي جداره الصغير بمجموعة شعارات نصادفها يومياً في الشوارع، كالعلمانية، وأخرى تنقل تأفّف الشباب من الحالة السياسية السائدة: «قرفتونا». أو رسوم لجداريات أيقونية كوجه فيروز وزياد الرحباني و«حنظلة». من دون أن ننسى التخلّص من رواسب الحرب الأهلية المطبوعة على الجدران أيضاً.
أربع حلقات عُرضت حتى اليوم، تناولت تحدّيات اللغة العربية، ووضع الفتاة اللبنانية، والإحباط عند الشباب، وصولاً إلى إشكالية النوستالجيا التي يعيشها اللبنانيون. تميزّت جميعها باختيار ضيوف ملائمين، فيما برع المعدّون في التقارير التي تقدّم موضوع الحلقة، وظهر هذا الجهد في المزج بين تقديم المعلومات وإضفاء نوع من التلطيف على أجوائها عبر الاستعانة ببعض الكوميديا.
لم يبخل «شارعنا» في توسيع مروحة نقاشاته لتطاول في كل حلقة وحسب القضية المطروحة، نوعاً من الإستصراحات والإختبارات، إن كان في الشارع أو في الاستديو. على سبيل المثال، في الحلقة المخصّصة للمرأة اللبنانية، جمع عدد من المستصرَحين الرجال من فئات عمرية مختلفة لإستمزاجهم ضمن مجموعة أسئلة تنطلق من الثقافة التمييزية ضد المرأة. في حلقة اللغة، إتجهت كاميرا البرنامج إلى الصروح الجامعية لإختبار الطلاب بقواعد اللغة العربية.
في تجربة «شارعنا» الذي لم يبلغ عمره الشهر بعد، إستطاعت مايا مجذوب وفريق العمل تقديم نموذج إعلامي مختلف، قوامه العمل المهني وطرح الإشكاليات بشفافية، وصناعة مادة تثقيفية بعيدة عن الأسلوب المنفّر والسطحي. رغم نسبة المشاهدة المنخفضة عموماً على «تلفزيون لبنان»، لا يمكن لهذا البرنامج الشبابي إلا أن يخرق جدران الشاشة ويعبر إلى شرائح أوسع، وربّما يكون هذا الباب: مواقع التواصل الإجتماعي.

«شارعنا» كل خميس ــ 21:00 على «تلفزيون لبنان».