في أذهان وقلوب كثيرين، هو مثل أبطال القصص، كـ «جونغر» و«غراندايزر». يصعب أن نعترف أنه مات، فالأبطال لا يموتون، بل يخلدون. جان غوفديرليان أو «غوفدير» (الصورة) هو أكبر تشكيلي لبناني، أرمني من رعيل سلوى روضة شقير، عاش بيننا حتى تجاوز المئة قبل أن ينطفئ أخيراً.كل الأجيال التي علّمها، عرفته كبيراً... ألا تولد جداتنا كبيرات، بشعر أبيض ناصع تماماً كالأوراق التي عشق إحياءها بالحبر، وريشة من قصب؟ كأنّها «كاتانا» في يد ساموراي راقص، يخط بها ضربات حاسمة ساطعة، نكاد لا نراها إلا في تخطيطات المعلم رونوار أو قبله تخطيطات رامبرانت. ريشة من قصب أشبه بريشة الخطاطين، أشهر ما عرف به بعد فرحه، يمتشقها كل الوقت كفارس لا يفارق سيفه. يدافع بها عن الحياة والحب والفرح. يغمسها بالأحبار من الأسود إلى البني، ويتعداها أحياناً إلى الأزرق بكل التدرجات المونوكرومية للحبر، ويعشِّقه بالورق على شاكلة تخطيطات مانيه النادرة. اشتهر كأيقونة «الرسم» اللبناني الأرمني. رسام، ولكن الرسامين الكبار نحاتون بامتياز، وهو بلا شك واحد منهم. طوع الأحجار لصالح رؤاه الفنية البصرية، وعجن بالطين الكثير من الوجوه الفائقة التعبيرية.
لم يكن غوفدير يرتشف سنواته المئة على مهل، بل كان يشربها كطفل عطش بكل ما أوتي به من قوة وشغف. من عرفه، يدرك أنّه كان يعمل أكثر من 16 ساعة يومياً. يعلّم الرسم، ينحت، يرسم على الورق، على القماش، على الخشب، حتى على المناديل عندما تلتقيه في الشارع ويريد أن يعبّر لك حيث لا ورق كافياً! بعض لوحاته التي حظي بها مقتنو الأعمال الفنية، تؤرشف لتاريخ من التقنيات الضوئية/ اللونية المترنحة بين الانطباعية والتعبيرية. أعمال تذكر بالدرجة الأولى بالطبيعة الصامتة لبول سيزان، وتبث فينا شعور المتعة البصرية الصافية التي لا تهديها إلا ألوان بول غوغان. هذا عن اللوحات التي ليست سوى المنطلق لعالمه الآخر، عالم العجينة الطينية، التي يشكِّل بها رؤاه البصرية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عالم الخشب الملون الزاهي! هنا يتحول غوفدير الكبير إلى «فوفيست»، فننسى أنّه هو الذي رسم بالأحبار اللوحات المونوكرومية، وننتقل إلى عالم «الوحشيين» الزاهي، متذكرين أعمال ماتيس وغيرها، حيث لا مجال للوصف.
لم يكن غوفدير طاقة فنية مستمرة الإنتاج فحسب، بل كان أيضاً قوة دافئة كالشمس تعطي الطاقة وتبثها. طاقة غيرت كل طلاب الفنون الذين تتلمذوا في محترفه أو صفوفه أو حتى عرفوه. كان يحفظ الشعر ويؤديه لمن يحبهم، باندفاع يكاد يوازي طلاب المسرح المتلهفين للعرض في معهد الفنون. عشق الأدب الفرنسي بشكل خاص. لم يكن يتردد بأن ينشد على مسمعك قصيدة لبودلير يمسرحها بصوته الصادح، أو يدندن نغمات واحدة من السمفونيات التي يعشق، فالموسيقى رفيقة عمره.
كنا ـــ نحن طلاب الفن ومجتمع الفنانين ـــ نندهش من كل قصصه وحياته وأعماله، التي خطَّها جوزيف الحوراني في كتاب بعنوان «غوفدير» نشر عام 2012. يومها، ترافق التوقيع مع معرضه الذي أقيم في «غاليري هاماسكايين» في تموز (يوليو) من ذلك العام، فكان أشبه باحتفالية فنية تشكيلية نادرة، يكرم فيها مجتمع الفن وطلاب غوفدير معلمهم ورسامهم الفذ، الذي نال جوائز دولية وكرّم قبل أن يولد كثيرون منهم. هو من أوائل خريجي المدرسة الوطنية العليا للفنون في باريس أواخر الأربعينيات. بعدها، أكمل دراسته الفنية في روما، ثم عاد إلى بيروت أستاذاً في المعهد الثقافي الإيطالي عام 1957. لكن ما لبث أن أنشأ «معهد غوفدير للفن» عام 1963. هذا المعهد كان ملتقى ثقافياً إبداعياً للرعيل الأول من التشكيليين اللبنانيين مثل سيسي سرسق، وأسادور، وهرير، وميساك تيرزيان... بعد عشرة أعوام، أغلق المعهد أبوابه، فانتقل غوفدير عام 1980 إلى قلعته الحصينة جامعة الـ «البا- الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة»، حيث عين أستاذاً محاضراً، فكرمته الجامعة كأيقونتها وكرّمها هو بعطائه الغزير والفريد. حاز غوفدير عدداً كبيراً من الأوسمة والجوائز اللبنانية والعالمية من رافينا في إيطاليا إلى بيروت قبل أن ينطفئ طاوياً مسيرة فنية لن يعصى عليها الموت.

*يحتفل بالصلاة لراحة نفسه عند الثالثة من بعد ظهر اليوم في «كاتدرائية مار نيشان للأرمن الأرثوذكس» (خلف السرايا الحكومي، زقاق البلاط) ثم يوارى الثرى في مدافن العائلة في رأس النبع.
تقبل التعازي اليوم وغداً في صالون «كاتدرائية مار نيشان للأرمن الأرثوذكس» ابتداءً من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر لغاية الساعة السابعة مساءً