كان لي في دمشق ثلاثة أبواب خفيفة. الباب الأول مداخل حارات دمشق القديمة ومركزها زقاق البركة حيث بيتنا. والباب الثاني حدود دمشق الحديثة بالنسبة إليّ وكانت المرجة الى طريق الصالحية أو جامع المولوية الى طريق الحلبوني ومتحف دمشق. أما الباب الثالث والمهمّ، فهو باب خفي الى الغوطة الشرقية والعتبات الأولى لمشارف البادية وقبلهما المرج. ولا شك أنه يوجد رابع أتى متأخراً ألا وهو باب دُمّر الذي يقود الى جبال لبنان. إن هذه الأبواب طبعت طفولتي وشبابي الأول وعلاقتي بنفسي وبالبلد، ومن ثم علاقتي بالعالم وأثّرت عن طريق الذاكرة على سيروة حياتي ورؤيتي للعالم. هذا ما كتبه مروان على قصاصة ورق صغيرة، مختصراً أبواب حياته الكثيرة بأبواب الجنة المفقودة التي لم يوقف البحث عنها للحظة واحدة حتى آخر يوم من حياته. مسّته لعنة الغربة، فأمسى عربياً في برلين، وألمانياً في سوريا، وعيونه شاخصة أبداً نحو الشام. مات موتته الأولى عند الانفصال القسري عن مدينته الأم، فحمل الغصة والحسرة لعقود طويلة داخل نفسه. أما موته المزلزل الثاني، فقد بدأ عند رؤيته لسوريا تُدمر فوق رؤوس أهلها، وهو كان قد أدرك بأن موسم الهجرة إلى الجنوب قد حان، وأن حلم العودة بات حقيقة، ليعود الى دفء وحرارة الأرض والفرح كغبطة الأطفال الأبرياء بالطبيعة واللون والهواء. وهو للحقيقة لم يغادر، بل حمل معه دمشقه الى برلين وشوارعها وساحاتها، حيث يقول: «دمشق أيقونة في قلبي ومصدر إلهامي وفني. نمتُ في برلين وحلمت بدمشق، من نهر بردى رويت بحيرات برلين، ولولا دمشق لما سارت السواقي واستمرت المسيرة». حمل حضارات بلده وحمل آلامها وأحلامها إلى برلين دمشقية، وفي دمشق نظرة إلى الشمال، يُصعِّد حلم دمشق في برلين من الآمال في تحقيق الذات.اللوحة هي صورة الإنسان لديه، أكانت طبيعة صامتة، دُمية أم وجهاً. كانت مزيجاً منه، من أحلامه وجسده وطموحه. لم تكن سطحاً فقط، بل اختلط مع السطح (الحامل) الكثير مما كان يحمله من أعماق ذاته. إنها مصيرية ووثيقة حياة. ينظر الى مرآة الداخل، كي لا يقع في واقعية الشكل يحفر من الذات ليصل الى جنون البقعة وفوران الشكل مع سيل الألوان وبداءتها، حيث تتفجر الفسحات بعيدة عن اللمس المهذب.
يعود باللوحة الى عنفوان العطاء وناره. نهاية البداية أو بداية النهاية «الدخول صعب، والوصول أصعب» هكذا كتب مروان على وريقة. اللوحة عنه كملاكم على حلبة الملاكمة أو مباراة ملاكمة حيث لا يوجد خيارات ولا مهادنة، وكان يُكرر باستمرار: «أنا أمام اللوحة إما قاتل أو مقتول».
البدايات: عندما توجهت الى برلين الغربية في عام 1984 للدراسة في المدرسة العليا للفنون، كنت متأخراً في إرسال المواد المطلوبة للجامعة المذكورة بسبب الحرب في لبنان، حيث البريد مُعطل وحركة الملاحة في مطار بيروت متوقفة بالكامل، فحصلت على قبول من الجامعة، ولكن لم يكن عندي قبول في محترف أيٍّ من الأساتذة والذي هو شرط إلزامي.
في أحد الأيام، دارت في رأسه فكرة متحف في فلسطين

ولم يكن هذا سهلاً، فذهبت الى مكتب الطلبة الأجانب الذي أرسلني الى البروفسور «مارفان» حسب قوله. كان خلال ذلك الفصل مسؤولاً عن شؤون الطلاب الأجانب (كانت هذه المسؤولية تُدار فصلياً بين كل أساتذة الجامعة، ولحُسن حظي أن هذا المارفان كان مرناً واستطعت بعد لقائه في مكتبه ويا للفرحة أن أحصل على مقعد طالب في صفه (محترفه) الذي كان من أكبر محترفات الجامعة، كون البروفسور مارفان كان محبوباً جداً بين الجميع. وهو الذي تخلى عن المحترف الخاص الذي تقدمه الجامعة له إلى طلابه، فأصبح محترفه يحتوي بالإضافة الى القاعتين المخصصتين لطلابه، قاعةً إضافية في المبنى الخلفي من الجامعة. في البداية، سألني لماذا أريد أن أدرس الفنون التشكيلية؟ توترت قليلاً قبل الإجابة، لكنني صارحته بأنني أريد أن أصبح ساحراً، ولكنه لا يوجد مكان في العالم لدراسته، ولكني أجد أن في التصوير شيئاً من السحر. وقد وجدت في هذا المجال ضالتي. أريد أن أدرس شيئاً يحتوي على الكثير من المفاجآت، شيئاً يجمع بين الترف والجد، بين الخفة والعمق. أريد أن أدرس شيئاً يشبهني، كذلك أن أدرس شيئاً أحبه. يبدو أن هذه الإجابة أعجبت مروان وبادر إلى قبولي قبل رؤية أعمالي (طبعاً الضمانة كانت هي القبول المُسبق من الجامعة وهي لم تكن تحصل من دون أعمال فنية جيدة ووافرة).
بدأت علاقتنا تنمو وتزدهر، وكان يطلب مني دائماً المزيد من المفاجآت ويذكّرني باستمرار عن علاقة السحر بالتصوير. أما الأهم في نصائح «المعلم» وصانع الأجيال مروان، فكان التركيز على عمل الأشياء التي تشبهني. كان محترف مروان متنوعاً وغنياً بالتناقضات، وهذا جعل المحترف كمختبر لتخمير الطاقات. وكان هو على دراية بكل طالب ويتعامل بحساسية وشغف مع كل صغيرة وخطوات متلاحقة تظهر تقدماً أو عمقاً في المعالجات. كنا نتحلق حوله كل مساء خميس لمناقشة سلسلة أعمال طالب واحد، وكان الحوار يطول ويستمر لساعات، يتخلله دائماً بعض الأطعمة والشراب. كان الحوار مبنياً على 3 نقاط أساسية:
1- حرية الرأي والتعبير (وبأي طريقة).
2 ـ المساواة بين الجميع من دون فوقية أو آراء مسبقة.
3 ـ الاستماع للآخر واحترام الآراء المختلفة. أعطى هذا المختبر نتائج عظيمة، تركت أثراً فنياً كبيراً في برلين والعالم.
بعد التخرج، استمرت العلاقة القوية بمروان خارج الجامعة، حيث كنا نتواصل في مناسبات عديدة. وفي عام 1999، طلب مني مروان مرافقته ومساعدته في بناء الأكاديمية الصيفية في «دارة الفنون» في عمان، حيث كان حلمه بتوسيع تجربة برلين والتواصل مع الجيل العربي الشاب. وقد استمرت الأكاديمية لسنوات طويلة في ما بعد، شاركت فيها كأستاذ مساعد في السنوات الثلاث الأولى. كانت عيون مروان دائماً على فلسطين، فطلب أن تكون مشاركة الطلبة من فلسطين أكثر من نصف المنتسبين للأكاديمية، وقد توافد في كل دورة 8 فنانين من غزة و3 من باقي مناطق فلسطين، على أن البقية من دول الجوار العربي. أهمية هذه الأكاديمية أنها كانت مكثفة جداً (شهر كامل/ 10 ساعات يومياً). وبفضل خبرة مروان وانفتاحه على الفنون العالمية المتنوعة، أثمرت هذه الأكاديمية فنانين واعدين وجدوا طرقهم الخاصة في التعبير والإنتاج وثابروا وأعطوا نتائج لافتة. أخذت هذه الجهود الجبارة الكثير من وقته وطاقته الجسدية، فكان بعد فترة الأكاديمية يبقى لعدة أسابيع في وضع صحي صعب لما يصيبه من وهن وإرهاق، هذا عدا الانقطاع عن العمل في محترفه لمدة تطول عن 8 أسابيع في السنة.
في أحد الأيام، بدأت تدور في رأسه فكرة متحف في فلسطين. وبعد المشاورة، قرر أن يقيم معرضاً له في «مركز خليل السكاكيني» في الضفة الغربية. بعد المعرض، أهدى كل الأعمال المعروضة إلى المركز المذكور كسابقة لتشجيع الفنانين العرب بإهداء المركز أعمالاً منهم لتكون نواة للمجموعة الفنية لمتحف فنون تشكيلية في فلسطين في المستقبل. وكانت هذه البادرة الحجر الأساس في المتحف الفلسطيني الجديد.
يمثل مروان صانع المعجزات الصوفي الأخيرة، هو فنان صادق مرتبط بجيل الأمل، وبعدها توالت النكسات الإنسانية والثقافية والسياسية حتى الخراب.
مروان فارقنا بصمت بعد حياة صاخبة بالإبداع وغنية بالألوان ومثمرة بنتاج فني خصب ووافر، ومتربعة بخصوصية فنية وفردية المراتب الأولى. شكراً أيها المعلم والصديق، لقد أغنيت حياتنا فرحاً وأملاً ونضارة.

* فنان لبناني مقيم في ألمانيا