تتواصل فعاليات الدورة 21 من «الصالون الدولي للكتاب في الجزائر» التي انطلقت قبل أسبوع وتستمر لغاية الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، بميزانية أقل بـ 50 في المئة عن السنوات الماضية. بذلك، يكون المعرض أبرز ضحايا خطة الحكومة الجزائرية لمواجهة أزمة انهيار أسعار النفط، رغم أنه أهم حدث ثقافي في البلد، تشارك فيه 50 دولة عبر 671 ناشراً وأكثر من 40 ألف عنوان، وتحِلّ مصر ضيفة شرف على هذه الدورة.
كتاب بيار دوم أثار جدلاً كبيراً عند صدوره في فرنسا عام 2015
على غير العادة، لم يأتِ صدى الذاكرة الاستعمارية الفرنسية للجزائرـــ في دورة هذه السنة من المعرض ــ محمّلاً من الضفة الأخرى للمتوسط، حيث ينام الأرشيف الجزائري بعيداً عن أيدي الأجيال الجديدة، ويصحو بين حين وآخر ليقطع حبل صمت الجهات الرسمية التي تسارع للتشكيك في نوايا الآخر وتصريحاته، وتركن مجدداً لصمتها بحجة غياب وسائل استرجاع الذاكرة. كتّاب الرواية الجدد قرروا، هذه المرة، صناعة «تاريخ بديل». أثناء توقيع الصحافي الفرنسي بيار دوم كتابه «التابو الأخير – الحركيون الذين لم يغادروا الجزائر بعد الاستقلال» («دار كوكو» الجزائرية ـــ 2016)، كان هناك ثلاثة روائيين - على الأقل- يوقّعون للقراء أعمالهم عن الذاكرة المشتركة بين البلدين.
كتاب بيار دوم الذي أثار جدلاً كبيراً عند صدوره في فرنسا عام 2015، وحاولت السلطات الجزائرية التشكيك في الأرقام والشهادات الواردة فيه حول عدد الجزائريين الذين كانوا يتعاونون مع فرنسا ضد الثورة الجزائرية، لم يكن وحيداً في معرض الكتاب الذي يعالج ملف «الخيانة» في الذاكرة الثورية للبلد. في اليوم نفسه، وقع كاتبان جزائريان روايتيهما عن الموضوع: الأول هو محمد بن جبار بروايته الثانية «الحركي» (منشورات القرن21 ـــ 2016)، والثاني كان الباحث الجامعي في الاقتصاد بومدين بلكبير الذي وقع روايته «خرافة الرجل القوي» (منشورات ضفاف/ الاختلاف 2016).
عندما قامت الزوبعة الإعلامية حول تحقيق دوم، صرّح الأخير لجريدة جزائرية، قائلاً: «لقي كتابي في فرنسا إعجاباً من قبل كل المؤرخين الجادين». وأضاف: «أتلقّى يومياً رسائل من جزائريين، عبر فايسبوك، يريدون قراءة كتابي». وهذا منطقي، كون التكتم حول أسرار حرب التحرير الجزائرية الممارس عبر الرواية الرسمية الهشة، لن يبقى مجدياً إلى الأبد. ها هو الجيل المتحرر من الانتماء لتلك الحرب، يستثمر في أسرارها. في روايته، يقدم بن جبار للجزائريين الذين تحدث عنهم دوم «تاريخاً بديلاً».
سعيد خطيبي
توغل في سيرة
ايزابيل ايبرهارت
يقول بطل روايته «الحركي» في الصفحة 74: «الجبهة وفرنسا تتصارعان خارج مجال وعينا ومجال إرادتنا. لم ندرك الصراع بحكم أفكارنا الريفية إلا عندما انخرطنا في هذا المعسكر، موقف صغير بدون نوايا سيئة سيجعل كل حياتك تحت رحمة المجد أو الخيانة». وأكد الكاتب لـ «الأخبار» أنّ «التاريخ المحظور والمسكوت عنه، هو جانب آخر من حقيقة ما نعرفه عبر التاريخ المكتوب بإملاءات رسمية»، نافياً خوفه من فخاخ الدقة التاريخية، معلّقاً: «ما قدمته هو خيال ضمن أُطر تاريخية، صنعت شخوصاً وحركتها فيه لتفكيك ثنائية الشرف والخيانة».
وفي روايته «خرافة الرجل القوي»، يشتغل بومدين بلكبير على الموضوع ذاته، مؤكداً لـ «الأخبار» أنّ «الرواية بشخصياتها وأحداثها مُتخيلة، لكنها غير منقطعة عن الواقع» عبر بطل نصف جزائري لأب مشكوك في علاقته بالثورة (كما يصفه الْكِتَاب) يعيش في باريس بخيالات ووجع عميق لذاكرة متوجسة. ويصف وضعه في الصفحة 41 من الرواية، قائلاً: «ماضي عائلة والدي التي لم يسبق لي وأن التقيت بأحد من أفرادها، وما أعرفه عن هذا الماضي وصلني من حكايات أبي، عن أناس لم ألتق بهم، وعن أرض لم تطأها قدماي. ماضي العار والخزي الذي لطخ شرف العائلة وأهان كرامتها. فتح أمامي كل أبواب الوجع الموصدة. وها هي صورة جدي الذي خذلته انحرافات وتشوهات الثورة». يقول الروائي لـ «الأخبار» إنّ «أكبر مآسينا اليوم تعزى إلى بقاء مشاكل الماضي معلقة، بعيداً عن المصارحة والمكاشفة، وبسبب إضفاء طابع القداسة على تاريخ الثورة».
لم يكن موضوع «الحركي» وحده الحاضر في روايات معرض الكتاب من الزمن الاستعماري. لقد امتدت عملية النبش في الذاكرة إلى مواضيع عدة، وهذا ربما سيجعل كُتاب التاريخ الرسمي يعيدون التفكير في طريقتهم، فالصحافي والمترجم الجزائري المقيم في الخارج، سعيد خطيبي، اختار بطريقة ذكية الاستثمار في الأمر من خلال إعادة كتابة سيرة المستكشفة السويسرية، إيزابيل ايبرهارت (1877 ــــ 1904)، التي كثيراً ما تم تجاهلها والتغاضي عن النصوص المهمة التي كتبتها عن الصحراء الجزائرية ومنطقة المغرب العربي، لأسباب يقول الكاتب «أنّها ذات طابع ايديولوجي». أمر جعلها تبقى دوماً سجينة ذاكرة خلافية غير دقيقة. لذلك حاول خطيبي الذي يُعد من أبرز المهتمين بسيرتها بإعادة بناء لحظة مرورها بالمنطقة في روايته الثانية «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» (منشورات ضفاف/ الاختلاف ـــ 2016).