عندما قدّم الثنائي عصام بو خالد وفادي أبي سمرا «صفحة ٧» للمرة الأولى عام ٢٠٠٧، أرفقا مطوية العرض بملاحظة مفادها أنّ «الشخصيات والحوارات الواردة في العمل ليست محض صدفة. وهي تمت للواقع بكل صلة، وأي تشابه بين عبثيتها والواقع متعمد، وعن سابق تصور وتصميم». مع إعادة تقديم العرض في «مسرح دوار الشمس»، لا حاجة اليوم لتلك الملاحظة، فقد باتت من البديهيات اليومية التي تجعل كل لحظة نعيشها قمةً في العبثية. كان ضرورياً أن يعاد تقديم «صفحة ٧» ليس فقط كي يتمتع من لم يحظ بفرجتها عام ٢٠٠٧ بل كي نتيقن أن قمة العبثية اليوم تكمن في جمود المشهد أولاً قبل «لا معقوليته». هكذا بدأ العرض: صورة جامدة. خزناها جميعاً في مكان ما، في ثقب ما داخل الذاكرة، قلدناها تارةً وضحكنا عليها طوراً. رجل تحت بقعة الضوء رافعاً إصبعي يده في إشارة النصر الشهيرة التي تحيل أيضاً إلى الرقم ٧. الجمود هنا يتعدى تلك الصورة ليبلغ فكرة العرض وعلاقته مع معيوشنا، إذ لم تبدل السنوات أياً من الأحوال التي توحي بها شخصيتا العرض اللتان عرفتا وصف راهنية اللحظة اللا نهائية التي نعيشها من دون التطرق إلى تفاصيلها أو يومياتها. يخرج العبث من الخشبة ليس بالمعنى الاجتماعي فحسب، بل بدا واضحاً سعي أبو خالد وأبي سمرا معدَّي العريض وممثليه لإخراج العمل من منطق «نخبوية العرض العبثي».
الرجلان اللذان يتناحران تحت بقعة الضوء ويدخلان في جدل لا طائل منه يشبهان إلى حدٍّ ما استراغون وفلاديمير في مسرحية بيكيت «في انتظار غودو». حتى إنّ الفضاء يوحي بشكل بسيط بمقعد «قصة حديقة الحيوان» لإدوارد آلبي الذي جلسا عليه في بداية العرض. هذا الإحساس لإحدى الشخصيتين «إنها عالقة بالنُص» والدخول في نقاش حول تعريف «النُص» قد يحيلنا إلى لعب يونيسكو باللغة ولا جدواها بحد ذاتها. رغم توافر كل تلك العناصر المتجذرة في إرث المسرح العبثي، إلا أنّ العرض اتخذ بوصلته العبثية الكاريكاتورية الخاصة مقدماً شخصيتين لدودتين غرائبيتين ومألوفتين في آن، تتناحران على كل شيء ثم تتحابان. هما غرائبيتان بسبب سلوكهما ولأنهما بنيتا بدراية وحرفة أدائية على تفاصيل نمطية محددة جُبِلت بعناية، وهما مألوفتان لأن فيهما أيضاً بعضاً من تشارلي تشابلن، ولأن الدينامية التي تجمعهما تشبه دينامية شخصيات أفلام الكرتون المتناحرة التي تتقاتل معظم الوقت ولا تستطيع أن تتنفس إلا بمحاذاة بعضها بعضاً. يجمع العرض بين مشاهد بورليسكية في الشكل وحوارات طفولية الطابع بسيطة مضحكة وهستيرية تتكرر وصولاً إلى تناحر، فحب فلحظة درامية، فتنافس تحت بقعة الضوء، فتناحر آخر فحبّ فموت!
هما متشردان يتنافسان على رفع شارة النصر تحت بقعة الضوء أو على رفع الرقم ٧، وهو رقم صفحة الوفيات التي يخرجها من جيبه عصام بو خالد كل يوم بحثاً عن فرصة عزاء ترفق بوليمة: هنا يبدو موت الآخرين السبيل الوحيد لهاتين الشخصيتين في الاستمرار في الحياة، فهي فرصتهما الوحيدة للحصول على غذاء. هما شخصيتان تشبهان بعضهما في نواحي كثيرة، وتكملان بعضهما، تشعر أحياناً كأنهما شخص واحد: الجاكيت الممزقة ذاتها التي لبساها في الوقت نفسه، الثياب الرثة، الحذاء، تكرار المواقف، الرقصة ذاتها، الغضب الذي يستكمل، الإحساس بالذنب... دوامة لا تنتهي حتى تعود بقعة الضوء حيث شارة النصر أو صفحة الموت فيختلفان. يمسك فادي أبي سمرا بورقة الوفيات فيرى اسمه عليها. لم يزعجه أنه مات. ما أزعجه أن صديقه لم يخبره بموته الذي تمّ قبل يومين.
اعتمد العرض الذي شارك في إعداده سرمد لويس (تولى أيضاً السينوغرافيا)، على الاختزال في المواقف، وتكرارها ثم تقديمها بشكل كاريكاتوري يعتمد على لغة شعبية محببة تستمد روحيتها من الشارع اللبناني: هي لعبة بين ممثلين أتقنا بناء كل تفصيل في العرض أكان مرتبطاً بالنص أم بعلاقتهما مع الفضاء أم بالحركة التي كانت في بداية العرض أقرب إلى مشهد إيمائي مشغول بعناية فائقة. عصام أبو خالد وفادي أبي سمرا كانا مذهلين ولدودين حتى في أدائهما منذ البداية حتى النهاية. عرفا كيف يدوزنان مشاهدهما الحركية في سياق درامي تصاعدي رغم أنه جزء من دائرة تلعب على التكرار. وهنا يأتي دور التفاصيل الطفولية الصغيرة التي كانت تفاجئ الجمهور دوماً وتعيد ترتيب الأوراق بينهما. هكذا انطلقا من التناحر حول أبسط الأمور إلى ثقل الموت الذي كان مخيماً منذ جمود الصورة الأولى للعرض: اليد التي ترفع شارة النصر وتحمل في طياتها رقم صفحة الوفيات. شارة النصر الأيقونية الطابع، التي قد نجدها في أرشيف صور كل الأحزاب والمنظمات السياسية في المنطقة ورفعها فادي أبي سمرا منذ بداية العرض، كانت أيضاً شارة موته. عن أي موت يتحدث العرض؟ عن موت شخصيتيه أم عن موت جيل أم عن موت قضية برمتها؟ كل التفسيرات واردة طالما هنالك فرصة أخرى لإعادة تقديم العرض بعد سنوات ضمن ريبيرتوار أعمال بوخالد/ أبي سمرا.

* «صفحة ٧»: 20:30 مساء اليوم وغداً ـ مسرح «دوار الشمس» (الطيونة) ـ للاستعلام: 01/381290
___________