لا نعلم بماذا كان يفكّر محمد ملص (1945) لحظة تكريمه بالوسام الوطني للاستحقاق من «مهرجان قرطاج السينمائي» الذي اختُتم أمس في تونس عن فيلمه «أحلام المدينة». الفيلم الذي حصد جائزة «التانيت الذهبي» من المهرجان 1984، كان أحد أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية، وإحدى علامات سينما المؤلف التي أسس لها صاحب «الليل» في السينما السورية. قبل ذهابه إلى قرطاج، كان المخرج السوري المحزون يمضغ الوقت المرّ في دمشق على دفعات، كأن عجلة سينماه تعطّلت إلى الأبد. لا أفق لمشاريع سيناريوهاته المؤجلة في الأدراج. خمسة سيناريوهات تراكمت سنةً وراء الأخرى، منذ أن عطّلت الرقابة وضغينة أصدقاء الأمس، سيناريو فيلمه «سينما الدنيا» (1992)، مروراً بمشاريع أخرى كان آخرها «نارنج»، من دون أن يجد جهة إنتاجية ما، تتبنى واحداً من هذه المشاريع المهمة، فيما اقتنص بعضهم فرصاً سينمائية، كانت بالنسبة إليهم بمثابة «غنيمة حرب» مقابل إنشاء تلفزيوني عابر محمولاً على خطاب لفظي هجين، وميزانيات ضخمة، وذاكرة مضادة للسينما. غداً سنلتقي في «مقهى الروضة» في مبارزة أخرى لقتل الضجر، كأننا لم نطعنه قبلاً، طوال خمس سنوات من «السينما الموءودة» بخطابٍ مضاد على هيئة جرعات أمل تشتعل وتنطفئ وفقاً لذهاب المخيّلة وإيابها. فما كان «مناماً» سينمائياً، تحوّل إلى كوابيس مرئية تعبر شارع العابد مع كؤوس الشاي والقهوة المرّة وسحابات التبغ وضجيج روّاد المقهى. ورغم تمكّن اليأس منه، إلا أن محمد ملص لم يتوقّف عن اختراع مهنٍ جانبية لطالما كانت بالنسبة إليه نوعاً من العزاء في استعادة الزمن المنهوب، بكتابة يومياته، ونفض الغبار عن مفكّرات سينمائية كان أنجزها في زمن الحماسة، وإعادة إحياء سيناريوهات مجهضة بطباعتها في كتب، أقله كشهادة على بسالة أيام ذهبت مع الرياح، من دون أن ترتطم بعين العدسة. «وحشة الأبيض والأسود» آخر كتبه المطبوعة، فاتحة لمشاريع أخرى تنطوي على حساسية رهيفة في تربية الأسى عن أفكار وتأملات وخيبات تعتمل بالفقدان والخسارة واللحظات الوجدانية المؤثرة لترميم المشهد بصورة مغايرة ومشتهاة، انتقاماً من همجيّة محو الذاكرة: «أشعر أني في قفص يلتفُّ من حولي. وأني أحمل قفصي وأتجوّل في الشوارع، وأتشرّب صور الصمت والتوجس والحذر المغمّسة في التفاصيل» يقول. هكذا سيبقى دماغه «بكرة فيلم» لن تتوقّف عن الدوران، كآخر سينمائي يؤجل لحظة انتحاره بسيف الآخرين. غداً سيعود إلى دمشق كي يروي تربة أزهاره الذابلة، وسيروي لنا حول طاولة في «مقهى الروضة» فكرة سيناريو آخر، كانت تطارده طوال الرحلة في الطائرة.