مالك شبل... إسلام التنوير | «المسلم الجديد» الذي كان يحلم به مالك شبل لن يرى النور قريباً. رحل صاحب «الكاماسوترا العربي» من دون أن يتخلّص المسلم الحالي من وزر الماضي، من قراءاته الميكانيكية للنص الديني، بل إن الأمر ازداد سوءاً. في عامه الأخير، شهد شبل صعوداً لافتاً للأصولية الإسلامية، بلغت شراراتها منفاه الباريسي. كما لو أن محاولاته لتحرير المسلم من فخّ الراديكالية لم تبلغ مقاصدها، فهو غير مقروء – كما يليق به – في العالم العربي. لم يقدّم شبل يوماً نفسه كرجل دين، ولا كمختص في الإسلام، لم يركب الموجة الإعلامية، التي سبقه إليها مفكرّون عرب، في فرنسا. حافظ على مسافة أمان في علاقته بالميديا. في باريس، كان يكتب كثيراً ويتكلم قليلاً. جمع في دراساته بين علم النّفس والأنثروبولوجيا لنقد الإسلام وتقديم تأويلات معاصرة للقرآن. ركّز عمله الأكاديمي على المرأة، خصوصاً في كتابين مهمين هما: «الكاماستورا العربي» (2006) و«العبودية في أرض الإسلام» (2007). وحين راكم «فهماً» حديثاً للدين، ترجم القرآن (2009) ليضع نفسه في مواجهة صاخبة مع بعض تمثيليات الإسلام في فرنسا. حاول خصومه التقليل من قيمة عمله الأهم، بحجة أن من يكتب عن الخمر («أنطولوجيا الخمر والسّكر»، 2004)، والجنس في الإسلام، لا يحقّ له ترجمة القرآن ولا التناقش فيه. لكن ترجمة شبل للقرآن كانت حاسمة في مسيرته. في عام واحد، نفدت ثلاث طبعات من الترجمة نفسها، وتجاوزت بذلك أرقام مبيعات الترجمة السابقة الأشهر لأندري شوراكي (1990). كان الراحل يفهم أن تعديل صورة الإسلام، في أوروبا إجمالاً، يبدأ من تعديل قراءاتنا له. هكذا خاض معركته ضد «أصولية التأويل»، وأنصار المذهب الظّاهري، الذين يحكمون على الأفعال والنّوايا من ظواهر النصوص، من دون إعمال العقل.
صُدم بتحوّلات ربيع العرب، وسطوة المنطق الديني

قد يختصر بعضهم اشتغالات شبل الفكرية برغبة منه في العودة إلى «إسلام الأنوار». هذا المصطلح بالذات كان «يُغضب» الراحل، بحكم أنّ المسلمين بعيدون تماماً عن تلك الحقبة، ومهما حاولوا، فلن يعودوا إليها. الإسلام اليوم يعيش زمن الانقسامات الكبرى، وكل مسلم يعيش ويحيا على إرث الماضي. لذلك، كان شبل يدعو إلى «قطيعة» مع ما سبق، من أجل التفكير في إعادة البناء، وتأسيس إسلام جديد، يتماشى مع اللحظة التاريخية التي يعيش فيها. من يكتب عن الإسلام من الغرب، يُنظر إليه بتوجّس... تلك هي حالة محمد أركون، عبد الوهاب المؤدب، ثم مالك شبل. مجرد أن يعيش هؤلاء في مجتمعات أوروبية، تصير كتاباتهم محلّ تشكيك، ويُنظر إليها على أنها ليست سوى «محاباة» للغرب. هذا ما يبرّر – إلى حدّ ما – بقاء قراءات أعمال شبل «نخبوية»، رغم أنه ترك أكثر من ثلاثين عملاً، فلم يترجم منها ـــ حتى الساعة ــــ سوى كتابين إلى العربية. كما أنّ أطروحاته لم تجد صدى في الأوساط الشعبية، فقد كان صارماً جداً في نقده للإسلام السياسي الحديث، وللحركات الإسلامية، التي ـــ برأيه ــ وُلدت من سوء فهم للنصوص الدينية، وتوسّع نشاطها في الداخل العربي، مما انعكس بالضرورة على صورة المسلم في الغرب، الذي صار «غير مرغوب فيه»، ليس فقط من اليمينيين، بل أيضاً من الأناس العاديين. لهذا، حاول شبل طويلاً قلب الصورة. اهتم بالكتابة عن المرأة المسلمة، بحثاً عن إنسانيتها، وتحريراً لها من العبودية الخاضعة لها في المجتمعات الإسلامية، وجاء الربيع العربي كلحظة «انبعاث» تمناها شبل، لكنه مثل غيره من المفكّرين، صُدم بتحوّلات ربيع العرب، وسطوة المنطق الديني على الآراء الأخرى. كانت خيبة كبيرة في نفسه، تمنّى أن تزول سريعاً، لكنها ما زالت مستمرة إلى الآن.
الإسلام بالنسة لشبل، هو إسلام متعدّد، وليس واحداً، يبدأ من لحظة «الوحي» لكنه يتفرّع. هو لم يكن يجد مانعاً في الكتابة عن زوجات الرّسول، وعن الإيروتيكية، عن الخمر، وعن السّيرة النبوية. كان يحمل في قلبه حلم ولادة «المسلم الجديد»، المتصالح مع نفسه، المتحرّر من سلطة المقدّس، لكنه مات وقد عاد المسلم العاقل إلى جحره، هرباً من طوفان الأصولية!