في فيلم «العرّاب»، وبعد أن يُغَربَل ابنه الكبير «سوني» بالرصاص، يستدعي دون كورليون (مارلون براندو) طبيباً، ويُريه جثة ابنه ويقول: أنظر ماذا فعلوا به... كيف ستراه أمه هكذا؟! ثم يطلب منه أن يجمّل جسمه وأن يجعله يبدو أفضل قبل تشييعه ودفنه. في معرضها «قيامة» الذي افتُتح في «غاليري جانين ربيز»، فعلت ريم الجندي شيئاً مماثلاً لما فعله الطبيب في الفيلم، ولكن في سياق مختلف عن سيناريو الفيلم طبعاً. البورتريهات المعروضة بقياسات صغيرة، والملفوفة بملاءات وأقمشة تسمح برؤية ملامح الوجه. هي صورٌ رأت الرسامة اللبنانية/ السورية مثلها في التظاهرات السورية الأولى قبل أكثر من أربع سنوات، حيث كان بعض المتظاهرين يُعتقلون أو يُقتلون، وتُعاد جثثهم إلى ذويهم في أكفان وأقمشة مرتجلة أو من دونها. من تلك الصور التي بثتها الأخبار والفيديوهات العاجلة، تكونت فكرة أو مشروع المعرض بالنسبة لريم الجندي التي عوّدتنا على مزج فنّها الشخصي مع تجاربها ويومياتها وأحوالها الشخصية.

طبعت ريم الجندي تلك الوجوه، واحتفظت بها في ذاكرتها، ولكن حين قررت أن ترسمها خطر لها أن تُزيل آثار التعذيب والعنف، وأن تعرضها من دون كدمة واحدة. نظفت جروح هؤلاء الضحايا، وأزالت الخدوش والكدمات، وأعادتهم كما كانوا أحياءً يمكن لهم أن يموتوا بسلام وأقدارٍ عادية كسواهم من البشر.
لا تصوغ الرسامة خطاباً سياسياً أو إيديولوجياً مباشراً، بل تنحاز إلى جانب الضحايا والقتلى، وتقف ضد القتل وسهولة حدوثه وغزارته وتنوّع أشكاله أيضاً. الوقوف بجانب الضحية لم يُوقع الرسامة في استسهال فكرة «القضية»، بل إنها في البداية ترددت – كما تقول – في كشف هوية وحقيقة من رسمتهم، لكي لا تتسبّب في تحميل المعرض بانطباعات عاطفية وميلودرامية وسياسية جاهزة. لم ترسم بوسترات أو لوحات وظائفية، كما أن اللحظة السياسية والتاريخية التي تحضر في المعرض تغيرت لاحقاً، وتولدت عنها صراعات وحروب متعددة. بطريقة ما، لا تريد الرسامة أن يطغى الهاجس السياسي وحده على معرضها.

وجوه لوحاتها نسخة «فيومية» معاصرة للاحتفاء بالموتى
صحيح أن المعرض سياسي في النهاية، ولكن هناك حرصٌ على أن يكون فناً أولاً. ولعلّ هذا الحرص هو الذي جعل ريم الجندي تصنع صلةً لـ «وجوه» معرضها مع «وجوه الفيوم» التي رسمها المصريون القدامى لأمواتهم، وكانت تُربط على وجه المومياء، ليتم التعرف إلى الميت حين يبعث بعد الموت. قوة المعرض وجاذبيته موجودتان في الممارسات والأفكار الفنية التي رافقت إنجاز بورتريهات المعرض، وتدخّلت في تأليف اللوحات وخياراتها اللونية وإنجازها على الخشب أيضاً. وجوه ريم الجندي هي نسخة «فيومية» معاصرة للاحتفاء بالموتى. إنها جنّازات تشكيلية على راحة نفوس الضحايا الذين نعرف كيف قتلوا، ولكننا الآن مدعوون إلى تأمل أعمال تمثل تجربة جديدة في شغل ريم الجندي على «الفن الأيقوني» واستثمار طاقته الدينية والطقوسية والتقديسية في ممارسات فنية حديثة ومعاصرة. الأصول الفوتوغرافية لمعارضها السابقة سهّلت عليها «استضافة» المذاقات الأيقونية في أعمالها، بل جعلت هذه الأعمال تحظى بفرادة خاصة من خلال «تلاطم» تأثيرات البوب آرت مع تأثيرات الأيقونة.
لا يزال شيءٌ من أندي وارهول يتراءى لنا حتى من وجوه الضحايا المرسومة أصلاً بنفسٍ أيقوني طاغٍ. الخشوع الذي تفترضه الأيقونة القديمة أو «وجه الفيوم» القديم يستدعي السَّكينة التي محت بها ريم الجندي جروح وكدمات الضحايا كي يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل موتهم. إنهم محفوظون هنا بطريقة تشبههم حين كانوا أحياءً، ويمكن تعليق صورهم في صالونات وغرف ذويهم كما لو أنهم ماتوا في حوادث الموت الاعتيادية. تسمي ريم الجندي هذا «جمال الضحية»، ويذكرنا هذا بجماليات «الجسد المريض والمعطوب» في معرضها «أوقات زيارة بينلوب» (2001)، وبجماليات «الكيتش» في معرضها معرضها «رجال» (2010)، وبجماليات «السيرة الشخصية والعائلية» في معرضيها: «طريق المطار» (2008)، و«شجرة العائلة» (2012). الفارق هنا أن التأثيرات الأيقونية التي تحدثنا عنها في تجاربها السابقة تتحالف الآن مع فكرة الموت، وتحوّل المعرض كله إلى طقس أيقوني، حيث لا يستطيع المتلقي أن يُبعد عن ذهنه أن المطلوب منه أن يشارك في لحظة «تأبين» جماعية. ولعل هذا يدفعنا إلى التساؤل عن «خسارة فنية» ما تكبّدتها اللوحات أثناء نقلها لفكرة الضحية المرتبطة بلحظة سياسية معينة. ربما لا يمتلك هذا التساؤل وجاهةً كبرى وملحّة الآن، ولكن مقارنةً مع معارضها السابقة (قد) يبدو المعرض الحالي أقل تنوعاً (بسبب فكرته الواحدة طبعاً)، وأقل تجديداً ومغامرةً لناحية الاستثمار الجيد للمادة الفوتوغرافية والأيقونية، والبحث عن تصورات إضافية على ما أنجزته الرسامة سابقاً. ويبقى أن نشير أخيراً إلى الجاذبية التي تخلقها ريم الجندي في خلفية لوحاتها عادةً. الخلفية ليست شيئاً ثانوياً أو زخرفة مجانية. ننتبه إلى سمكات مصفوفة فوق أحد البورتريهات، وإلى يدٍ حانية فوق أخرى، ثم نرى طائراً ورمانة وقمراً وأوراق أشجار... إلخ. ثم ننتبه أن اللوحات معنونة بأسماء هذه العناصر والتفاصيل. إنها محاولة أخرى من الرسامة لتشتيت الانطباع السياسي الموحد والكثيف عن المعرض. ما هذه اليد فوق أحد الوجوه، نسألها؟ فتقول: ألا ترى! إنها تربّت على الضحية التي في اللوحة.

* «ريم الجندي: قيامة»: حتى 25 حزيران (يونيو) الحالي ــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة). للاستعلام: 01/868290




قيامة جماعية

إلى جوار البورتريهات المنفردة للضحايا، تعرض ريم الجندي لوحة واحدة تحمل عنوان المعرض «قيامة»، وتضم ستة وجوه لموتى كأنها في «قيامة جماعية»، إضافة إلى ثلاث لوحات أخرى تبدو للوهلة الأولى منفصلة عن «مشروع» المعرض، ولكن التدقيق في عناوينها وموضوعاتها يسهّل انتماءها الخفي إلى فكرة المعرض، فهذه اللوحات تلخص دورة حياة تبدأ بصورة تذكارية للزواج، صورة أخرى للزوجة الحامل، ثم صورة الأب حاملاً الابن المنتظر على كتفيه. الابن نفسه مرشّح ليكون حاضراً في واحدة من البورتريهات المعروضة. في زمن الحرب، وفي الوضع السوري تحديداً، يبدو هذا المصير ممكناً بقوة، أن يكون الابن قتيلاً أو مخطوفاً أو مفقوداً أو مجزوز العنق أيضاً.