سِيَر الشعراء في كتاب فارس يواكيم تتجاوز أحياناً أشعارهم لمعاناً، رغم أنها غالباً تأتي من ماضٍ يقوم على الحنين. ولا يتعارض ذلك مع حقيقة أن العمل الكبير الذي قام به الباحث والكاتب اللبناني المقيم في برلين، يركّز الضوء على الشِعر واللغة على حساب السيرة والتاريخ.
في كتابهِ «الإسلام في شِعر المسيحيين» (2016 ـــ توزيع دار الفرات)، يمد يواكيم يديه إلى الرفوف القديمة ويمسح الغبار عن أشعار قيلت في الإسلام ونبيهِ ورموزهِ، من قبل شُعراء يتنوعون، بين محسوبين على المسيحية في التصنيف (الطائفي) السائد، أو أنهم مسيحيون في ثقافتهم وانتمائهم الفِعليين. ثلاثون شاعراً، يقتطف الجامِع من دواوينهم أبياتاً وقصائد، ويوغل فيها شارحاً ومعجباً في آن.
من خلال استعراض الأسماء، يبدو أن الكِتاب أُعد وفق القواعد الكلاسيكية في الشرق العربي على قاعدة الإرث أكثر من المنهج، لتعريف الإسلام والمسلمين، وكذلك الأمر في حالة المسيحية والمسيحيين.

كتب المطران نيفن سابا:
«عهد الجدود تجدد ما بين
عيسى وأحمد»
ولهذا محاسن تُثمِر في الأدب، لجهة حسن النيةِ وتوسيع الوعاء الديني من طابعه الطائفي البليد إلى فضاءات ثقافية أرحب، وله مساوئ أيضاً بحيث أن الجمع بين كمال ناصر وسعيد عقل (مثلاً) في خانةٍ ثقافية واحدة على مستوى الانتماء ليس دقيقاً من الناحية العلمية. فقد كان ناصر بعثياً وقومياً عربياً في بداياته، وعلى الأرجح يأتي إعجابه بالإسلام من هذه الجهة، قبل أن ينضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية وتغتاله إسرائيل في عمليةٍ شهيرة. في موازاة ذلك، وبعد سنوات من تحفته «غنيت مكة» التي يقول فيها «يا قارئ القرآن صلّ لهم/ أهلي، هناك، وطيّب البيدا»، كان سعيد عقل يمدح جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء اجتياح بيروت. لكن الشِعر يبقى شِعراً، على الأقل في مُنجز يواكيم، الذي يتخطى عتبات هذه السجالات بعرضِ «محايد» لسير شعرائه، وجلّهم من بدايات القرن العشرين، ويتوزعون على أقطارٍ عربية، أهمّها لبنان، سوريا، وفلسطين. وفي محاولةٍ منه لتفادي تسجيل المواقف الذاتية، يرتّب يواكيم الشعراء أبجدياً، كما يُحسب له العرض بحيادٍ وهدوء، والتركيز على الشِعر بما هو شِعر، والمغزى الرئيسي للكتاب، أي «مسيحيون يكتبون شِعراً عن الإسلام»، وإن كان الأمر يقتضي تدخلاً من مؤلِف الكتاب في أحيانٍ كثيرة، كي لا يُفرط القارئ العادي في خلاصات عن أصحاب الأبيات، يستقيها من القصائد المقطوعة من دواوين وسير صيغت بدبلوماسيةٍ وأناقة.
تأخذ القصائد المتينة قارئها على متنها في رحلةٍ بالذاكرة. ذاكرة يكتشف فيها متصفح الكتاب بلاغة لم تنل حقها في الذِكر، ويحسب ليواكيم إعادة تصديرها للقارئ العربي، كحليم دموس وخليل مطران ووصفي قرنفلي وغيرهم. كما يضيء على كتابات غير معروفة لكتاب معروفين. ومثال على ذلك، استعادة الأبيات من شِعر متقمص نيتشه، جبران خليل جبران، حين يقول: «أنا لبناني ولي فخر بذلك، أنا مسيحي ولي فخر بذلك، ولكني أهوى النبي العربي وأكبر اسمه وأحب مجد الإسلام وأخشى زواله. أنا أجلّ القرآن. خذوها يا مسلمون كلمة من مسيحي أسكَن يسوع في شطر من حشاشته، ومحمـداً في الشطر الآخر». لا نعرف فعلاً إن كان شِعر جبران هذا رائجاً في الولايات المتحدة حيث عاش الشاعر البشرّاني، لكن استحضاره من بين كيليشيهات جبران ليس بالحدث السهل. وفي أي حال، لا يستعيد يواكيم هذا الماضي السحيق في محاولةٍ منه لدحر الحاضر المحاصر بالعصبيات والأصوليات، وهذا ما يلتمسه القارئ من مقدمة الكتاب المتزنة. يستعيد ما يستعيده من أجل الجمال وحسب، أو في وصفٍ أقل شاعرية، من أجل اللغة بما هي جسر وأداة للتواصل والوصول، خاصةً أن الشاعر المسيحي لا يجب أن يغادر هويته العربية. وتالياً، يمكنه عبور الجسر، والمرور إلى الضفة الأخرى، والكتابة من خارج جلدهِ عما يلعب دوراً في تشكيل هويته العربية التي ينتمي إليها. لا ينفي ذلك أن الراهن مفخخ وقد لا يكون جاهزاً لاستقبال مؤلف بمثل هذا النوع، لكنه من شأنه أيضاً أن يلعب دوراً في تحريك بعض أحجار الذاكرة.
الذاكرة قصيرة غالباً. في مقدمة كتابهِ، يستشهد يواكيم بأبيات للمطران نيفن سابا، الذي كان أسقف زحلة والبقاع الأرثوذكسي يقول فيها «عهد الجدود تجدد ما بين عيسى وأحمد/ يد العدى قطعته بالأمس الله يشهد/ لكنه بالنصارى والمسلمين توطد». والحق أن هذه أبيات «منحوتة» شِعرياً، لكنها «منحولة» بالمعنى المسيحي للكلمة مجازاً. وإن كان شرح البيتين يحتاج إلى فهم كثير بالبيئة والمجتمع والطابع الشرقي للأورثوذكسية، فإنه لا يلغي أنّ الأب يتجاوز لاهوته حين يقبل بعيسى بدلاً من يسوع، ويستخدم «النصارى» مصطلحاً للدلالة إلى مسيحيي الشرق. وإن كان ذلك يعكس شيئاً، فهو يعكس قوة العربية في ترسيخ مفاهيم إسلامية. مفاهيم قد «تطبع» المتأثر بها حيناً، وقد تبقيه على مسافةٍ منها رغم الإعجاب والمودة، كما هي الحال مع ما كتبه المطران الأرثوذكسي الآخر، الأسقف جورج خضر، في تقديم ديوان «ملحمة الإمام علي» للشاعر جورج شكور: «شهد الضياء بمسجد، وبمسجد/ كانت شهادتهُ وغاب ضياءُ».