الرباط | يجلس مقدم البرنامج وجهاً لوجه مع ضيفه، معتمراً قبعة سوداء كُتب عليها بالأحمر FBM في تقاطع مع الاسم المختصر للمخابرات الأميركية، كأن الأمر يتعلق بتحقيق، وكأن المذيع يقول لضيفه: «إننا نعرف كل شيء عنك». هذا ما سيدركه المشاهد وهو يتابع حلقة «المواجهة» التي بثتها قناة «Medi 1» المغربية الجمعة الماضي، قدمها بلال مرميد أحد أكثر مقدمي البرامج الفنية جرأة واقتحاماً، وكان ضيفه المسرحي المغربي المعروف عبد الكريم برشيد (1943)، الذي يقترن اسمه منذ بداياته بـ«المسرح الاحتفالي» الذي ألف فيه كتباً عدة ذات طابع تنظيري.
«هل انتهى زمن عبد الكريم برشيد؟» هذه هي صيغة السؤال الأول الذي كان صادماً للضيف، رغم ما أبداه على مدار المواجهة، التي دامت حوالى ساعة، من هدوء ورزانة وميل إلى الحديث باللغة الفصحى وبالتشابيه والاستعارات. فعبد الكريم برشيد اسم كبير في تاريخ المسرح المغربي والعربي، يحظى بالتقدير حيثما حلّ. وعلى مدار عقود، كان فارساً في التأليف والتنظير والإخراج في مختلف المهرجانات الوطنية. بياناته حول الاحتفالية التي كان يصدرها تباعاً من عواصم عربية، لقيت الحفاوة، وكانت تصريحاته حول راهن الفن تحظى دائماً باهتمام الناس، بل إنها في الغالب تثير الجدل ليس لنزعتها التحررية كما يفترض من مثقف تقاطع باكراً مع قيم اليسار، بل لأنها تنحو دائماً جهة «الطهرانية» أو «القيم الأخلاقية»، التي يرى برشيد أنها منبع المسرح ومصبّه.
أحرج بلال مرميد ضيفه حين استنكر البيان الذي أصدره ضد مسرحية نعيمة زيطان «ديالي» من دون أن يشاهدها. علماً أنّ المسرحية كانت قد أثارت الكثير من الجلبة، بدءاً من عنوانها الذي يشير إلى العضو التناسلي للمرأة. وأحرجه مرة أخرى حين سأله عن إحدى تقنيات الكتابة السينمائية التي أقرّ صاحب «الحكواتي الأخير» عدم معرفته بها، فوجدها فرصة ليزيد الحرج حين استغرب جهله بها، وهو الذي كان يرأس لجنة الدعم السينمائي.
توقف مرميد مع ضيفه أيضاً عند المسافة التي تفصل بين نظرياته المسرحية وتطبيقها على الخشبة. كما أشار إلى بعض التناقضات بين أفكاره القديمة والجديدة، متسائلاً عما إذا كان التحول من اليسار الفكري إلى اليمين وإلى المهادنة هو المصير الطبيعي للمثقف المغربي حين يتقدم به العمر. دافع برشيد عن أفكاره وقناعاته، خصوصاً ما يتعلق بالمسرح الواقعي وموسيقى الشباب، طالباً من محاوِره أن يأخذها في سياق الحرية الفردية والتصور الشخصي، ومشيراً إلى أن الجمهور في أوروبا يملك حق الضرب بالطماطم والبيض الفاسد، وأنه كان يبدي آراءه ولم يرمِ أحداً بالبيض الفاسد.

نصوصه المسرحية أخرجت التراث العربي
من ماضيه وأقحمته في المعاصرة

كما عبّر عن ميله إلى ضرورة تفاعل الأجيال الفنية من دون نية قتل الأب أو الابن، مؤكداً أنّه لا يؤمن في السياق ذاته بنظرية موت المؤلف، بل بنظريات البعث والعودة الدائمة إلى الحياة. الفن الذي يراه برشيد احتفاءً دائماً بقيم الجمال، يكون فوق الواقع، تجميلاً له على حد تعبيره، لا نقلا مباشراً أو تكراراً له. فالمسرح بالنسبة إليه أخلاق، والسينما فكر وروح، وليست فقط مالاً وتقنيات. جدد الرجل خوفه من الاستلاب الثقافي ونبه إلى خطورة الأيديولوجيا على الفن. وعن دعم الدولة للأعمال الفنية، اشترط برشيد ألا يكون الدعم مقابل الحرية. ويبدو أن الحلقة التي ربما أرادها معدّ البرنامج ومقدمه ساخنة وجدلية، كانت هادئة، بل شكلت حالة من النوستالجيا. عاد برشيد إلى ذكرياته وتاريخه المسرحي الحافل، كأنه ظل يذكّر محاوره ومشاهديه بما أنجزه في أب الفنون، هذا المنجز الذي لا يمكن القفز عليه بأي حال. فقد أصدر أكثر من ستين مؤلفاً في كتابة المسرح ونقده والتنظير له. عاد من فرنسا مطلع السبعينيات بدبلوم في الإخراج المسرحي من «أكاديمية مونبولييه»، ونال لاحقاً شهادة الدكتوراه في المغرب حول موضوع «تيارات المسرح العربي المعاصر». ألف نصوصاً مسرحية عديدة أخرجت التراث العربي من ماضيه وأقحمته في الحياة المعاصرة مثل «عنترة في المرايا المكسرة»، و«امرؤ القيس في باريس»، و«ابن الرومي في مدن الصفيح»، و«سالف لونجة»، و«ابن رشد بالأبيض والأسود»، و«ليالي المتنبي» وغيرها. كانت هناك هالة لبرشيد الهادئ طوال لحظات الحوار. رغم أسئلته التي حاصرت رائد الاحتفالية، كان بلال مرميد رحيماً جداً بالرجل قياساً مع ضيوفه في الحلقات الأخرى، حتى إنّه ظل يكرر كلمة «أستاذ» في مخاطبة برشيد عشرات المرات، كما أعاد عبارة «حضورك يشرفني» أكثر من ثلاث مرات.
الخلاصة التي قد يصل إليها المشاهد العربي، وهو يتابع هذا اللقاء مع المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد، أننا قد نتفق مع الرجل في أفكاره وتصوراته، وقد نختلف معه، لكننا في النهاية لا نستطيع أن نلغيه.