مَن يقرأ قصة انهيار البرج (بلاسكو بيلدينغ) في طهران أول من أمس، على موقع «العربية» السعودية، قراءة عمودية وسريعة، سيخرج غالباً بثلاث خلاصات. أولاً، لا يوجد شيء اسمه ضحايا. الخبر محايد تماماً. وللوهلة الأولى يبدو هذا مهنياً. (دعك من هذا الافتراض البريء). ثانياً، يذكّر العنوان الذي يقول «برج طهران المنهار بناه يهودي أعدمته إيران رمياً بالرصاص» بالفيلم الطريف «أيلول في شيراز». الفيلم الذي أدت بطولته سلمى حايك وأدريان برودي، يروي قصة استشراقية في غاية السذاجة والتفاهة عن الثورة الإيرانية. وثالثاً، سرعان ما ينتبه القارئ إلى أنه يتصفح «العربية». ولا يجب أن يستغرب كيف يمرّ الخبر الإيراني على المحطة السعودية. في تعريفه المعاصر، الخبر بشكلٍ عام، وليس خبر «العربية»، ليس مجرد عرض، بل إنه يخضع للتركيب والصناعة ويضاف إليه ما يضاف إليه من توابل. ولكن ثمة إجماع على أنه حدث لا يعرف به الناس ووظيفة الإعلام هي نقله. علمياً، يتشكل الخبر من أجزاء فيها تفاصيل وتحظى بخلفيات. ويحب أن يكون الخبر جدياً حتى يتعامل معه القارئ بجدية. كذلك، يجب أن يتناول مسألة متداولة أو قابلة للتداول، وهذا معيار لأهميته. ثمة من يقول إن عامل التشويق في الخبر ضروري أيضاً، وأن هذا معيار أساسي لأهميته ورواجه. وهذا مدخل لشرح أكثر تعقيداً.

يعتبر يورغان هابرماس أن «الفضاء العام» بدأ بالظهور في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. و«الفضاء العام» الذي يتحدث عنه، هو المساحة التي تحدث فيها السجالات وتستقبل النقد وتشكّل ملعباً للنقاش في القضايا السياسية التي يتداولها المجتمع. أما «الرأي العام»، فلا وجود له خارج حدود اسمه، وحسب الفرنسي بيار بورديو، إنه «اختراع»، وينحسر في «المفاضلة بين رأيين، أو بين مجموعة آراء».

عنوان أحد تقاريرها «ماذا
فعل سفاح اسطنبول في إيران قبل التسلل إلى تركيا؟»
لا يوجد شيء اسمه «رأي عام». يوجد خيارات. مفاضلة. Choices. النظام السوري، ضدّ النظام السوري. الأهلي أو الزمالك. عمرو دياب أو تامر حسني. ترامب أو هيلاري. «الجزيرة القطرية» أو «الميادين»، «العربية السعودية» أو الاثنتان معاً. أن تصدّق أن هناك «مشروعاً إيرانياً ــ صفوياً»، أو لا تصدّق ذلك. مسألة خيارات، قضايا «رأي عام». ومجموعة «أخبار» تدور حول هذه القضايا. يورغن هابرماس، على الأرجح، لا يشاهد «العربية». ليس مضطراً إلى ذلك. لا أحد مضطر إلى ذلك. ولا نعرف مدى اهتمامه بهوس «العربية» حين تتناول «الخبر الإيراني». وفي أي حال، تجاوزنا القرن التاسع عشر. صار تفسير «الفضاء العام» كما يحدده هابرماس ينسحب على «العربية» على نحوٍ لا يصدّق. يقول عالم الاجتماع الألماني إن الفضاء العام الآن لديه وظيفة أساسية هي تحديد ما هو فردي وما هو مجتمعي. ولكن الأهم من هذا، أن مفهوم «الإشهار»، أي إشهار الأفكار والسجال والنقاش تحت سقف العقلانية، قد تحول إلى دعاية، دعاية للدولة أو للحزب السياسي. وهكذا، لم يعد الرأي العام نتاجاً للسجالات، بل أصبح يتبع لوظيفة دعائية، على أكثر من مستوى، أبرزها السياسي. بهذا المعنى، وحسب هابرماس، استقطب الإعلام الجديد جمهوراً عريضاً، لكنه أخذ من هذا الجمهور حريته، وحقه في الرفض والمساجلة. وعلى «العربية» آلاف الأخبار «البروباغندية» عن إيران، من «حدود خراسان» كما تفترضها «العربية»، وصولاً إلى خبر انهيار البرج أمس. سلسة طويلة، عبارة عن «عينات» من «الأخطاء المهنية» على «العربية» التي ترنو إلى وصفها بالطرائف، أكثر من كونها أخباراً.

دود خراسان

وفق قناة «العربية» السعودية، «يشار إلى أن خراسان منطقة غير محددة المعالم جغرافياً وفقاً لأدبيات الجماعات المتطرفة، فهي تشمل باكستان وأفغانستان وإيران إلى حدود نهر جيحون، وفقاً لباحثين في شؤون الجماعات الإرهابية». وبطبيعة الحال، لا شيء اسمه «أدبيات الجماعات المتطرفة». والتعريف الذي يُنسب إلى باحثين، ليس تعريفاً علمياً، إذ أن ثمة من يؤكد أن «إقليم خراسان» ينفلش بين أكثر من دولة، هي إيران وطاجكستان وتركمانستان وأوزبكستان. وفي إقليم خراسان، هناك بلخ وهراة ونيسابور الشهيرة. وإلى جانب تعريفات أخرى، ثمة من يقول إن خراسان فارسية واسمها فارسي، وقد تعني «بلاد الشمس». وتعتبر مدينة نيسابور وحيرات وطوس التي تعرف باسم «مشهد»، إلى مدينة ومرو من مدن خراسان التاريخية، كما يعتبر إقليم خراسان الساساني أصغر في مساحته من خراسان الإسلامية، فقد كان يمتد من شرق لوكانيا جرجان وحتى نهر المرغاب ولهذا إشارة هامة، لا يفيد خبر «العربية»، التي تنسب إلى «باحثين» أن «خراسان» تمتد بين إيران وباكستان وأفغانستان. ولا يحتاج هذا إلى تفسير كثير، ليعرف أن هذا مجرد تعريف «سياسي» لخراسان، يناسب «أهواء» القناة.

العلاقة مع «القاعدة» و«داعش»

«العربية. نت»، كما تقول، «اطلعت على إحدى رسائل ماجد الماجد، أمير «كتائب عبد الله عزام وزعيم تنظيم القاعدة في بلاد الشام جبهة النصرة»، المطلوب رقم 70 على لائحة المملكة لأخطر 85 مطلوباً في الخارج، واعتقل في لبنان بعد قدومه من سوريا في 26 ديسمبر (كانون الأول) 2013، وتوفي في المستشفى العسكري اللبناني بعد أسبوع واحد في 4 كانون الثاني (يناير) 2014 وما زالت تفاصيل وفاته غامضة».

تعليق الآمال على انسحاب
ترامب من الاتفاق النووي هو ما يشغل بال المحطة
وعرض التقرير السوريالي ليس مفيداً بشيء، وما يفيد أن خلاصة التقرير المعنون بـ«صهر الزرقاوي إلى ريف اللاذقية»، يريد الإيحاء أن «جبهة النصرة» تعمل في خدمة حزب الله. ولهذه الطرفة تكملة، العرض متواصل. «ماذا فعل سفاح اسطنبول في إيران قبل التسلل إلى تركيا؟»، هو تقرير آخر على القناة «السعودية»، يستغرب فيه المحرر استبعاد أن يكون مرتكب جريمة اسطنبول يتحدث «الفارسية» (إلى جانب اللغات الأخرى)، كما أنه هرب من معتقلٍ في إيران. وخلاصة هذا التقرير، الإيحاء بأن «داعش» تعمل لخدمة إيران. يحتاج تفنيد الخبرين إلى مجلدات. الاكتفاء بعرض الخلاصتين، ليس بهدف استبعاد الفرضيات، إنما بهدف تفكيك مباني الخبر «العربية» التي تمزج «القاعدة» مع «داعش» و«الفارسية» مع «التركية» و«الزرقاوي» بصهره و«جريمة اسطنبول» بـ«سمرقند»، ومطابقة هذه العناصر كلها مع أهم شروط مصداقية الخبر بمعناه الأكاديمي: أن يكون الخبر حقيقياً أي وقع فعلاً، أي أن لا يكون متخيلاً ويستند إلى سرديات تتجاوز الأسئلة فيها نسبة الجدية. تبذل «العربية» جهداً خرافياً في «التحقيق» بفرضية وجود دور إيراني «شرير» دائماً، ويكون هذا على حساب الخبر. ولا ينفي أن محطات كثيرة مناوئة للقناة السعودية تقوم بدورٍ مشابه وتركيبات مشابهة، بالمقلوب.

مريم رجوي ومجاهدي خلق

في 17 حزيران (يونيو) 2003، عندما اعتقلت الشرطة الفرنسية مريم رجوي، ونحو 160 شخصية من كبار مسؤولي منظمة «مجاهدي خلق»، كانت ندى حسني في إجازة في لندن، كما أعلنت «مجاهدي خلق» لاحقاً. لا بد من أنها غادرت معسكر أشرف بواسطة جواز سفرها الكندي، قبل أن يغزو الأميركيون العراق في نهاية آذار (مارس). أضرمت ندى حسني النار في نفسها، في وقتٍ لاحق، احتجاجاً على توقيف مريم رجوي، كما فعل عشرة أعضاء آخرون من «مجاهدي خلق»، صبوا النفط على أنفسهم في باريس ولندن وبيرن. أعلن «المجاهدون» ثلاثة منهم كشهداء. ذلك أن تحقيقاً رصيناً للصحافية الهولندية يوديت نيورينك، يبيّن الطابع التوتاليتاري للعلاقة في «مجاهدي خلق» بين رجوي وأعضاء منظمتها. وفي وقتٍ سابق، كان معقل المنظمة في العراق، في معسكر «أشرف» تحت وصاية صدام حسين ونظامه المعادي للسعودية طبعاً. ولكن «العربية» تشير إلى رجوي و«مجاهدي خلق» على أنهم من رموز «المقاومة الإيرانية». وللطرافة يمكن التذكير أيضاً بعملية «الضوء الأبدي» التي شنتها «مجاهدي خلق» ضدّ إيران.

حقوق المرأة والإعدامات

الكثير من الأخبار على «العربية» نقلاً عن «هيومن رايتس واتش»، تدين سجن النشطاء والصحافيين في إيران. والمنظمة تدين ذلك فعلاً. وإيران بالسلطة الحالية، قطعاً ليست بلداً نموذجياً. لكن على «العربية»، تدين المنظمة سجن النشطاء والصحافيين في إيران، لكنها لا تدين جلدهم وإعدامهم في السعودية. حتى ولو بحثتم لساعات، ستجدون أن «المملكة نظيفة» بالكامل. طبيعي. «رأي عام». مسألة خيارات. وتستغرب «العربية» أوضاع «المرأة» في إيران. ولا جدوى من التذكير بأن المرأة لا يمكنها قيادة السيارة في السعودية، وهي على بعد خطوات من الحصول على حق الترشح للرئاسة في إيران. لا يلغي ذلك طبيعة النظام الإيراني الثيوقراطية، الذي يضع بشكله الحالي الكثير من العوائق أمام المرأة. ولكن عندما تكون «المملكة» من زجاج، فكيف تراشق إيران بحقوق المرأة، وماذا يمكن تسمية هذا النوع من الخبر «المهني»، الذي يرتكز فعلاً إلى مصدر وإحصاء، ويخفي «أخباراً».

وداعاً أوباما

لاستحالة رصد الحضور الإيراني «الشرير» على صفحات «العربية»، تستوقف الباحث بعض العناوين على «العربية». ليس هناك أي ود من القناة السعودية للرئيس الأميركي الراحل باراك أوباما. الإعجاب بترامب الآن وتعليق الآمال على انسحابه من الاتفاق النووي هو ما يشغل بال «العربية». كذلك، فمقاربة الملف البحريني يمكن اختزالها على هذا النحو: من الشاهنشاهية إلى الخمينية: مقابلة تركي الدخيل مع «رجل السلام» ولي العهد البحريني. كل شيء على ما يرام، و«ليس هناك أي شيء في البحرين»، وهذا التسطيح ليس جديداً، وهو على غرار ما كان يقوله معارضو «الثورة السورية» في بدايتها: «ليس هناك أي شيء في سوريا». وإن كان الإعجاب بالملك السعودي وأفكاره وتحليلاته وبحليفه بالبحرين ممكناً، فلماذا لا يكون الإعجاب بترامب ممكناً، وإن كان هذا على عكس توجه «صحافة أميركا» نفسها.

الفهم السطحي للنظام الإيراني وتعقيداته

رأي «العربية» بالـ«حركة الخضراء» (تلت انتخاب أحمدي نجاد لدورة ثانية) في طهران إيجابي جداً، لأن السعودية تتعامل مع السُلطة في إيران كما لو أنها مركبة على ذات النسق في السعودية، بمعنى أنها مع أي حركة تزعج «المرشد». ذلك رغم أن بزوغ الثورة الإسلامية في إيران ترافق مع بناء جدّي لفكر «جماعي» بمعالم واضحة في الدستور الإيراني، وخصوصاً في ركنيه الأساسيين، «الجمهورية» و«الإسلامية». هذا المفهوم استمر السجال حوله عقدان من الزمن، ويدور حول كيفية تحصيل الشرعية، أي إن كانت «الجمهورية» سابقة على «الإسلامية» أو «الإسلامية» سابقة على «الجمهورية». وكل هذا يعكس صورة مختلفة من العلاقة الثلاثية بين «الدستور، ولاية الفقيه، والشعب». من ناحية يرى التيار التحديثي التوفيقي مشروعية النظام وكون العلاقة بين الولاية للفقيه والشعب، نوعاً من العقد الاجتماعي، والبنود الواردة في الدستور هي شرط ضمن هذا العقد، في حين أن التيار التحديثي التوفيقي المحافظ، وفي عرضه لمفهوم «الإسلامية»، يتحدث عن علاقة عمودية ووصائية للفقيه. وفي فترةٍ ما، راح السجال في عهد الرئيس المنفتح محمد خاتمي يركّز على رؤيتي السلطوية والجمهورية الإسلامية في الكشف عن حقيقة المشروعية في النظام الإيراني. وهذا ما لا يهم «العربية» إطلاقاً، حين تتناول إيران، إنما تتناولها ككتلة «صلبة» ومعادية.