لم تصل الأغنية الوطنية السورية في مختلف الأزمنة السابقة إلى ما وصلت إليه اليوم من انحطاط في الكلمات والألحان وحتى الأداء بشكل عام. أمر يعكس حالة فقدان الهوية التي تعيشها الأغنية السورية عموماً، كأحد أنواع الفن الذي دمرته الحرب، أو حولته إلى سلعة.تدني مستوى الأغنية على المستوى الشعبي، يمكن أن يمثل حالة تطور طبيعية لتنامي ظاهرة أغاني «الكراجات» التي سادت الوسط الفني في فترة ما قبل الأزمة، وانتقلت من الملاهي الليلية إلى الشارع السوري عموماً، وأصبحت سمة للأغاني المفضلة عند شريحة واسعة.
عشرات الأشخاص الذين يصنفون أنفسهم في الأوساط الشعبية السورية الآن على أنهم فنانون، وجدوا في الحرب فرصة لا تعوض للشهرة. لا يحتاج الأمر إلا إلى بعض الضجيج، وكلمات مرصوفة بلا معنى. ويكفي حشر بعض المصطلحات لتسويق هذه الأغاني أياً كانت نسبة النشاز في صوت مؤديها، فتأخذ منحى جديداً وتتحول بضجيجها ذاته إلى «وطنية».

وفي ظل حالة الفرز والتصنيف التي جذّرتها الحرب في سوريا، أصبح مجرد الميل السياسي شفيعاً ووسيلة تسويق قوية لأعمال أقلّ ما يقال عنها بأنّها «وقحة» وأبعد ما تكون عن الفن.
هكذا صدرت خلال السنوات الماضية عشرات الأغاني التي تحمل صفة «الوطنية»، وتصدح في الملاهي المنتشرة في أرياف حماة واللاذقية وطرطوس، قبل أن تسهم السوشال ميديا في خروج تلك الأغاني إلى عالم أوسع، وتصبح كلمة «سوريا» أو «شهيد» مدعاةً للدبكة على وقع الزمر والطبل، وسمة لمعظم الحفلات. هكذا، تصدرت تلك الأغاني نتائج أي عملية بحث عن عبارة «أغنيات وطنية سورية» في محركات البحث.
لم يتردّد أولئك «المغنون» في استخدام الجيش والشرطة والعسكر كمحاور أساسية لأغانيهم بشكل مبتذل (لونا فارس في أغنية «عسكوري»، اسماعيل أوطه باشي في أغنية «الله يحمي سوريا»).

صارت كلمة «شهيد» مدعاةً للدبكة على وقع الزمر والطبل



أما فراس الحمزاوي، أحدث المنضمين إلى «المعمعة الوطنية»، فقد تفوّق على الجميع وقرّر أخيراً إتحاف الشارع السوري بـ «ألبوم وطني» يضم ثلاثين أغنية يمكنها تلخيص المستوى الذي وصلت إليه «الأغنية الوطنية».
يتضمن الألبوم الذي يستعد المغني ذو الأربعين عاماً لطرحه في الأسواق مجموعة متنوعة من الأعمال التي تناسب جميع الأفرع الأمنية والفصائل المقاتلة في سوريا، وصولاً إلى لبنان. في قراءة سريعة لأسماء الأغاني، قبل الخوض في مضمونها، يمكن أن تتضح الصورة أكثر: «حزب البعث»، «الفرقة الرابعة»، «الجوية»، «القوات الخاصة»، «الحرس الجمهوري»، «صقور الصحراء»، «الشبيحة»، «ثورة سلمية»، «أرزة لبنان»... فيما تبرز «كلاب الخارج» لتنافس «بشراسة» على صدارة المشهد بلحنٍ «عبقري» يمزج بين الموسيقى والنباح!
اختار الحمزاوي لغلاف ألبومه صورة له وهو يحمل سلاحاً رشاشاً، في محاكاة لواقع الحياة السورية التي بات فيها الزي العسكري «موضة»، والسلاح «أكسسواراً». بوضوح، يشرح الحمزاوي لـ «الأخبار» أبرز أهدافه «الفنية» قائلاً: «اذا بدي غني متل ما كل الناس عم تغني، ما راح حدا يسمعني. لذلك خياري للعنوان هو هدف من اهداف الوصول إلى الشهرة وكسب أكبر عدد من المستمعين». ويضيف: «أولاً وأخيراً هدفي الشهرة. لذلك أثارت أعمالي ضجةً لانّ غيري يخاف على مستقبله الفني، وأنا ليس عندي شيء لأخاف عليه». يرفض الحمزاوي تصنيفه على أنه مطرب لأن «المطرب هو الذي يقوم بالغناء حسب رغبة رواد المطعم. أما أنا، فأعتبر نفسي فناناً من الدرجة الأولى». ويتابع: «أغني فقط في الحفلات الوطنية والأعراس، وقد تم تكريمي من قبل جهات وطنية عدة في سوريا»!.
مشوار الحمزاوي قبل وصوله إلى «الأغنية الوطنية» طويل، بدأ كـ «رياضي في بناء الأجسام»، ثم انتقل إلى تقديم أغاني الراب، قبل أن يطرح «قنبلته» العام الماضي (أغنية «لـط*** لا ترجعي». لم يتأخر الإعلام الرسمي عن تقديم الدعم اللازم للمغني «الظاهرة»، فاستضافته وسائل قنوات وإذاعات عدة. ووفاء لماضيه الرياضي، سارع الموقع الرسمي للاتحاد الرياضي السوري إلى كتابة معلقة عنه جاء في مقدمتها «كان الإغريق يصنعون من الأجسام الجميلة مواضيع لوحاتهم ومنحوتاتهم بحيث يمثل الجسد الإنساني قمة الجمال وصناعته قمة الفن... فماذا إن كان من نتحدث عنه بطلاً حائزاً ألقاب بطولات القطر على مدار 18عاماً؟ إنه البطل فراس الحمزاوي الذي كما فرض نفسه على مسرح الأجسام، فرض نفسه وأحبه الجمهور على مسرح الطرب والغناء».
هكذا إذاً وجد صاحب أغنية «أصابع رجليكي» ضالته الجديدة للشهرة، مستغلاً أزمة الأغنية الوطنية السورية التي فاقت مستوى الأزمة ذاتها. أمر يتطلب عملاً حقيقياً لإيجاد هويتها الضائعة، وإلا فإن أغاني الكراجات ستصبح في يوم ــ وهو ليس ببعيد ــ تراثاً، ويغدو هذا «الضجيج» وطنياً، ومن يكفر به مجرّد «خائن».