مستويات متعدّدة بحاجة إلى التحليل، والفهم في معرض «أن تصير اثنين» الذي يحتضنه «مركز بيروت للفن». الأعمال الثمانية ــ كل واحدة على حدة ــ وما تصنعه مع بعضها البعض، نصوص طوني شكر (1968) المرافقة للأعمال، وذلك الكتيب الصغير الذي ينتظرنا على مدخل المعرض... كل واحدة من هذه الأدوات توجّهنا بشكل أو بآخر نحو السؤال الذي يصبح أكثر إلحاحاً مع كل عمل نمرّ عبره أو نراه أو نسمعه: أين المغزى؟ وما هي القيمة الإضافية/ المعلومة/ الرؤية المختلفة التي قدّمها لنا هذا العمل؟
في «مركز بيروت للفن»، يقدّم طوني شكر أول معرض فردي له، مراكماً أعمالاً له على مدى عشرين عاماً. عبر تركيبات تراوح بين سمعي وبصري، ترافقها نصوص، يقول النص المعرّف بالعرض بأن شكر يختبر «أشكالاً من المقاومة الرمزية إزاء الصراعات التي تمزّق هذا الجزء من العالم الواقع تحت وطأة زخم تاريخي مغاير». لكن الوصف الذي قدّمه شكر هنا يبالغ في توصيف ما سيأتي في العرض.
يفترش شكر فضاء المركز مكسّراً رؤيته السمعية البصرية النصية تلك بين تركيبات تحاول الإمساك بالمعنى، ثم تفلته مباشرة قبل الوصول إليه. بالتسلسل الذي تحدّده الخريطة، تمرّ زائرة العرض من صور كفرنبل (المدينة السورية) ترافقها نصوص عن الثورة، ثم تدخل غرفة خافتة الأضواء، لتسمع لدقائق طويلة وبالانكليزية، نصاً يصف غرف منزل. عندما تنتهي قراءة النص، تضاء الأضواء على ثماني لوحات يفترض أن تتوسطها خريطة المنزل، لكن النص ذاته (بالإنكليزية) بداخلها. في العمل الثالث، رسومات بالرصاص للوحات كلاسيكية ترافقها نصوص وعناوين يحذّرنا النص الأساس أن لا علاقة لها بالرسوم، فتأتي العناوين بأسامي آلهة من الميثولوجيا الرومانية. يلحق العمل الرابع بما قبله في تشريح علمي لأيقونة وجدت في كفتون في شمال لبنان، كما جاء في النص المرافق. لكن التشريح هذا أيضاً لا يقدّم شرحاً كما نتوقع منه، بل تعقيداً في ما يمكن أن نراه فذلكة على القارئ/ الناظر.
يأتي العمل الخامس ليبتعد أكثر عن المعنى المأمول، فيمتلئ الحائط بصور وكلمات ليكون النص المرافق هو المفسّر الأوحد لما يجري: نظرة إلى أخطاء برامج الحاسوب للتعرّف إلى الوجوه.

تمثال ذهبي لأنثى وضع
على كورنيش عين المريسة لمواجهة تمثال عبد الناصر


ويظهر في العمل السادس، ومن بعده السابع والثامن، بريق ما يمكن التفكّر فيه، إلا أنّ المعنى يفلت مرّة أخرى من يد شكر ليبقى سطحياً غير مؤطّر وغير جاذب للناظر، لا يعنيه ولا يجرّه إلى التفكير. في التركيبات الثلاثة الأخيرة هذه، يبدأ شكر بالحديث عن صورة شهيد، ذهب ابنه إلى رجال «حزب الله» لرسم صورة له. ما قصته، كيف استشهد وفي أي معركة؟ لا نعرف. ثم يعرض شكر أحد أعماله وهو تمثال ذهبي لأنثى وضع على كورنيش عين المريسة لمواجهة تمثال عبد الناصر. وفي العمل الأخير، تغطّي الخريطة الشهيرة لبيروت عام 1876 والتي رسمت بجنوبها في أعلى الصفحة وشمالها في أسفلها (على عكس ما يتّفق عليه في رسم الخرائط، حيث يتوقع أن يكون الشمال في الأعلى)، حائطاً كاملاً من مساحة المركز. وكتب عليه نص شعري (تقريباً) بالانكليزية وصور لمبانٍ حداثوية في بيروت. حين ننظر إلى هذا العمل، وهو يستعمل خريطة يُفترض أن تكون قد مرّت أمام عيني كل من درس/ ت العمارة أو التنظيم المديني أو تاريخ هذه المدينة، نتوقّع أن يقدّم أكثر من إعادة رسم للخريطة ذاتها، وفكرتين أو ثلاثاً عن السلطة والخريطة: من البديهي أنّ من يرسم الخريطة، يمتلك السلطة، والتعليق الذي قدّمه شكر على هذه الخريطة ليس أقلّ ما يمكن أن نتوقّعه أمام عمل بصري بهذا الحجم.
بين التركيبات الثمانية هذه، يضيع العنوان الأساس، وما يضيع أكثر هو المعنى المتراكم بينها، خاصة في النصوص. ليس صعباً أن نجمع كل ما قيل في فضاء هذا المعرض بكامله في كلمات قليلة. وهنا، ربما، المشكلة. لا نقول بأنّ more is better «الأكثر هو دائماً أفضل»، لكننا نسائل قيمة المعنى وعمقه في معرض قدّم أعمالاً ثمانية. لو لكم يكن لدينا خريطة للأعمال ونص مرافق لها، لكنا أضعنا الهدف من العرض... أم أننا فعلاً أضعناه؟
يتمادى شكر في ذكر والتر بيجامين، وجورج باتاي، وجان-فرنسوا ليوتار، وميشال فوكو وغيرهم، فيما يظهر كأنه خارج عن سياق النص من جهة، وتعداد غير ضروري لعدد من الفلاسفة والمفكرين، يريد شكر إبلاغنا بأنه يعرف أعمالهم. وفي حين يسعى جاهداً من ينتج فناً، لإيصال الفكرة والمغزى والهدف، يبدو شكر كأنه يصنع عملاً لأقلية محظوظة أو لنفسه. العمل موجود بحد ذاته، لا يطلب معنى ولا يعطيه. العمل هنا لا يورّط الناظر إليه، لا يشدّه، لا يدعوه إلى مساءلة ما يجري في التركيب ولا يزيد في رؤيته إلّا الإبهام. بينما نتوقّع أن «تمثّل كل لحظة في هذا المعرض تحوّراً مادياً لإيماءة معينة ضمن مشروع ملتزم سياسياً وشعرياً»، لا نجد حقاً، أثراً للتحوّر المادي المذكور، أو لـ «مشروع ملتزم سياسياً وشعرياً» بحسب كلمات شكر.
في معرضه الفردي الأول، يريد شكر أن يطرح «تجربة التعلّق بين حالتين» كما يقول في نصّه. لكن أي من الأهداف التي يحاول شكر الوصول إليها من خلال عمله، لا تنجح في إيصالها تركيباته ولا عرضه ككل ولا نصوصه. في زمن يمتلك فيه العاملون والعاملات في الإنتاج الفني، هذه المساحة الهائلة من المواد المتاحة والدعم المادي والنفسي وإمكانية الحصول على المعلومة، من التبذير أن نمتلك هذه الامتيازات كلها ثم ننتج ما لا معنى له!

* «أن تصير اثنين» لطوني شكر: حتى 28 آذار (مارس) ـــ «مركز بيروت للفن» ــ للاستعلام: 01/397018